إطلالات رمضانية مع المرجع المدرسي في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام

الإمام علي عليه السلام نداء الانسانية

شبكة مزن الثقافية

 

لماذا نحترم علياً سلام الله عليه، ولماذا نحبّه؟ ولماذا نُودِع حبّه في قلوب أبنائنا، جيلاً بعد جيل؟

ولماذا نتخذ من ليلة تلقيه ضربة الظلم والطغيان، وليلة إستشهاده، مناسبتين حزينتين وأليمتين، نجدِّد فيهما عهدنا معه عليه السلام؟

كل هذه الأسئلة، تجيب عليها حقيقة واحدة وهامة، وهي إن الإنسان لا يمكن أن يعيش من دون قدوة يتّبعها، وإمامٍ يقتدي بهداه، وإذا لم يحدّد الإنسان ـ بوعيه ـ إمامه الذي يقتدي به وإسوته التي يتاسّئ بها، فإنه سيضطر الى اتباع إمام ضلال وقدوة حيرة!

  • الإمام علي قدوة أبدية

الإمام علي ـ عليه السلام ـ لم يكن إمام عصره فحسب، ولا قدوة الجيل الذي عايشه فقط.

وأمثاله ـ عليه السلام ـ ممن يخرجون عن إطار المادة، ويحلّقون في فلك الحقيقة، ويدخلون في رحاب الله، مثل هؤلاء الرجال ـ أساساً ـ ليسوا لعصرهم، ولا لبلادهم، ولا لقومهم، ذلك لأن الحقيقة لا تعرف العصور والحدود والحواجز الجغرافية.

النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان إماماً، وجعله الله كذلك لكلّ الناس فقال سبحانه وتعالى: «وإذ إبتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً».

لقد وجب على البشرية جمعاء، الإقتداء بابراهيم النبيّ (عليه السلام)، ذلك لأنه «إمام» مجعول من قبل ربّ العالمين للناس جميعاً وكذلك فإن نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هو أيضاً قدوة وأسوة للبشرية جمعاء، في كل مكان وزمان. أكد ذلك ربنا ـ سبحانه ـ في قوله: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة».. فمن آمن بالله، فإنّ رسول الله هو أسوته..

  • إمام الناس جميعاً

والإمام عليّ (عليه السلام)، هو إمام الناس جميعاً، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: «وأنفسنا وأنفسكم»، ونفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نفس عليّ (عليه السلام)، لأنه كان يتّبع خطاه، ويخطو إثره خطوة فخطوة، دون أن يحيد عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قيد أنملة.

إن إبراهيم ومحمداً وعلياً ـ صلوات الله عليهم جميعاً ـ أصبحوا أئمة هدى، لأنهم حلّقوا في سماء الحقيقة، بعيداً عن حواجز المادّة.

من هذا المنطلق ذاته، نتّخذ نحن الإمام علياً (عليه السلام) قدوة وأسوة، إذ أنه سمى في عالم الملكوت، وفي عالم التجرّد لله ـ تعالى ـ.

لقد سمى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الى عالَمٍ، قال هو عنه: «لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً».

وقال عن نفسه وعن ذلك العالَم: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه».

الإمام عليّ (عليه السلام) كان يتوجه ـ وهو أمير المؤمنين ـ الى سوق الكوفة، فيشتري ثوبين ببضعة دراهم،ويخيِّر قنبر خادمه ليختار أجود الثوبين. فضلاً عن ذلك، فقد إكتفى الإمام من دنياه بقرصيه، كما أشار الى ذلك ـ حالفاً بالله ـ في أواخر أيام حياته في الكوفة.

إنه لم يبنِ لنفسه بيتاً، ولم يرفع حجراً على حجر..

يُذكر أنّه دخل بيته (عليه السلام) شخص من المسلمين، فلم يلحظ في بيت علي أثراً للأثاث والريّاش والأمتعة..

فسأل الإمام (عليه السلام): أين أثاث بيتك يا أمير المؤمنين؟!

فأجابه الامام (عليه السلام): يا هذا.. لقد بعثناه الى الدار الأخرى.

فتصوّر ذلك الشخص أن لعلي (عليه السلام) بيتاً آخر غير هذا الذي يسكنه، فتساءل: أين بيت علي (عليه السلام) الجديد؟1

فإذا به يُجابَه بأن الناس لا يعهدون بيتاً لعليّ (عليه السلام) غير بيته فيعود الى الإمام ويسأله: اين بيتك الآخر وأثاثك يا علي؟

فيجيب الإمام عليّ (عليه السلام): إن بيتنا الذي بعثنا بالأثاث إليه، هو الدار الآخرة..

  • تحليق في سماء الحقيقة

هكذا تجرّد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن عالم المادّة، وحلّق في سماء الحقيقة، وهناك المزيد من الأمثلة في هذا المجال.

فقد وفد عليه ـ ذات يوم ـ وفد كبير، وكان (عليه السلام) أحوج مايكون الى الناس، لأنه كان يستعد لدخول حرب ضارية مع معاوية، وعلى أية حال فقد فتّش عنه أصحابه ولم يجدوه، إلا بعد حين.

فدخل عليه إبن عباس وقال له: إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا منك، وكان الإمام يخصف نعله.

فقال عليّ (عليه السلام): «أما والله إنها أحبّ إلي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».

هكذا تجرّد الإمام علي (عليه السلام) للحقيقة، ولله تعالى؛ وحينما يصبح الإنسان خالصاً لله، فإنه يكون للناس جميعاً، وحينما يجرّد الإنسان نفسه من كل رواسب المادة والجاهلية، فلن تعرف ـ عند ذاك ـ شخصيتُه الحدودَ والعصورَ والأجيالَ.

  • لهذا نحترمه

لهذا نحترم علياً ـ سلام الله عليه ـ ونقدّره، ونورِّث أبناءنا حبّه، ونبكيه في ليلة جرحه، وليلة إستشهاده. إننا لا نبكيه لأن إسمه عليّ أو لأنه إبن أبي طالب (رغم إستحقاقه ذلك لتفرده في الشخصية)، إنما لأنه كان للحقيقة وللمظلومين والمستضعفين، ولأن منهاجه الذي ضحّى من أجله، ذلك المنهاج المنير الذي أعطى حياته من أجله، ومن أجل تكريسه في الواقع، ذلك المنهاج هو ما يحتاجه المستضعفون الآن.

حينما نبكيه (عليه السلام)، فإننا نبكي ـ في الواقع ـ كل أولئك المحرومين الذين سحقتهم ولا تزال أرجل الجاهلية الغليظة. نبكي ويتردّد في أسماعنا دويّ الآهات المنطلقة من حناجر الثكالى والأرامل، نبكي علياً (عليه السلام) وفي قلوبنا الأحزان النابعة من قعور السجون، ومن أعماق المعتقلات هنا وهناك، نبكي علياً (عليه السلام) رثاءً لأمتنا، التي لا تزال تجهله بعد أكثر من ألف وأربعمئة عام، ولا تزال عاجزةً عن تقدير نهجه، ولا تزال تُسحق تحت أقدام الجبابرة والطغاة.

نقدّر عليّاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونحبّه، لحبّنا العميق للإنسانية، ولأننا نعرف أنّه يساوي الإنسان ونهجه وعمله، وإن تضحيته إنما كانت من أجل المعذَّبين، الذين ما زالوا يتعذبون.

إنّ إسم الإمام عليّ (عليه السلام) يثير في أعماقنا حبّ الإنسانية، الذي اودعه الله تعالى في فطرة كل إنسان، وإسمه ـ عليه السلام ـ يثير في قلوبنا دفينة العقل، وينظّف فطرتنا البشرية.

ما أحوجنا، الآن وفي كل يوم، الى تجديد ذكرى الإمام عليّ (عليه السلام)، ليكون هو ونهجه وبرامجه وتضحياته ودمه الزكي، نصب أعيننا، لكي لا نتّخذ قدوات زائفة من هنا وهناك، تطبّل وتزمّر لها أجهزة الطواغيت.

  • مبعث الألم

انشر مما يحزّ في قلوبنا، ويعمّق في أنفسنا، أننا نجد في مثل هذه الأيام، أن أجهزة التثقيف أصبحت فاسدةً ومفسدة.

إنشر أمامك أية صحيفة، واقرأ أية مجلة، وابحث في أي كتاب، واستمع إلى أية إذاعة، فماذا عساك أن تقرأ أو تسمع أو تجد؟! لن تجد ـ في الأغلب ـ إلا قدوات مزيّفة، يحاول الطواغيت أن يفرضوها على أبناء الامة بصورة عامة.

مقابلات صحفية مع صور ملوّنة، ومع بعض الصفات البعيدة عن هذه الشخصية أو تلك. إنهم يكتبون ويتحدثون عن هذه الصفات، ويرسمون تلك الصور الملوّنة، لكي يوحوا لأجيالنا بأن هذه الشخصيات المهزوزة هي القدوات الجديرة بالإتباع!

إنّ أكثر المشاكل في أمتنا، وأخطر المصائب، إنما جاءت من هذه الثقافة الباطلة، التي تحاول أجهزة الطاغوت أن تكرّسها في أدمغة أجيالنا الصاعدة، وهي التي لا تزال أكبر عقبة تعترض طريق تقدم أمتنا وحضارتنا، وطريق رفع الحرمان والعذاب عن الأغلبية الساحقة من أبناء أمتنا.

  • القدوة الحقّة

أجل، إننا ورغم كل السحب الداكنة التي تخلقها أجهزة الطواغيت ومرتزقتهم من الذين باعوا دينهم، وباعوا رسالة الله، وفطرة الإنسان ببضعة دراهم، وبثمن بخس، فأخذوا يكتبون تملّقاً، ويسبّحون بحمد «القدوات» الزائفة، سنقوم بايجاد تيار من الثقافة الحية، عن طريق إحياء ذكرى عليّ (عليه الصلاة والسلام).

إنّ من أعظم صفات وسمات الأمة الحيّة، هي أنها تُبقي على جوهر الحياة في ذاتها، وتتوارث هذا الجوهر عبر القرون، رغم الضغوط والمشاكل.

إننا حينما نحيي عليّاً ـ سلام الله عليه ـ في قلوبنا، ونتوارث حبّه ونتذاكر مآثره ونبكي على آلامه، ونفرح في أيام سروره، فذلك من أجل ان نحول دون أن يُفرض علينا مثل هؤلاء القدوات الزائفة التي يفضّلونها.

نحن لا نقبل أية قدوة، ما دامت لا تجسّد عليّاً (عليه السلام) في أفعالها وأفكارها وأعمالها وتضحياتها.

إننا نحتفظ بعليّ (عليه السلام) في قلوبنا، كما نحتفظ بقلوبنا في أجسادنا، إنّه لا ينفصل عنّا، ولا ننفصل عنه، لأننا نعلم إنّ الأعداء يريدون أن يسلبوا منّا هذه الجوهرة،وهي جوهرة الحياة.