الإمام المدرسي : كيف نستقبل شهر رمضـان المبارك ؟

محاضره لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك

شبكة مزن الثقافية

مع إطلالة شهر الله الفضيل.. شهر رمضان المبارك، يستقبل الناس هذا الشهر حسب درجة إيمانهم، ومدى معرفتهم بفضائل ومكارم هذا الشهر العظيم، فبعضهم يستقبله من غُرّة شهر رجب الأصب، والبعض الآخر من الأيام الأولى لشهر شعبان المعظَّم، وبعضهم من منتصف شعبان، بينما بعض منهم لا يستقبله، وإنما يقتحم عليه شهر رمضان إقتحاماً دون أن يلتفت!

  •  الاستقبال ضرورة

فهؤلاء الأصناف المختلفة من الناس يتعامل كلٌ مع شهر رمضان حسب مقدرته واستيعاب وعائه للتزوّد من محطة هذا الشهر الروحية الربانية، فَمِن هؤلاء مَنْ لا يعرف من شهر رمضان والصيام إلاّ الجوع والعطش وتناول السحور والفطور، فهؤلاء لا ينالون منه إلاّ ما كُتِبَ لهم من جوعهم وعطشهم، ثم تذهب بركات وفضائل ونفحات أيام وليالي هذا الشهر سُدى ودون رجعة، و يكون حالهم كحال ذلك الذي يصلي ولكن دون أن يتلذّذ من زاد الخشوع في الصلاة.

  •  شهر رمضان.. محطة روحية

   لقد جعل الله لعباده محطات تزويد بوقود الايمان والمعرفة، حيث تقوم هذه المحطات الروحية بدور رفع الحجب والسحب الكثيفة التي تحول بين إتصال العبد بالمولى جل وعلا. وشهر رمضان هو عبارة عن تلك المحطة الربانية الكبرى التي دعا الله سبحانه عباده للاستفادة منها، قبل ذهاب الفرصة وحلول الغُصّة. وهذا دليل آخر على رحمة الله بعباده ولطفه لهم، رغم قساوة قلوبهم وشقائهم وابتعادهم عن معدن الخير والفضيلة.

فليالي الجمعة المباركات، والمناسبات والمواسم الدينية العظيمة، كليلة النصف من شهر شعبان و.. وليالي شهر رمضان المبارك تدخل ضمن دائرة هذه المحطات الالهية التي ينبغي أن نسعى للاستفادة منها واستثمارها، كيما تحدث في داخلنا نقلة نوعية حقيقية. وإذا كانت المحطات المكانية كمسجد الحرام، وجبل عرفات، والمشعر الحرام، ومراقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين الطاهرين عليهم السلام لها الدور المؤثِّر في استشعار الارتباط الوثيق بين العبد والمولى، فإنّ المحطات الزمانية والتي تأتي على رأسها أيام وليالي شهر رمضان هي الاخرى تكمِّل الدور المطلوب في هذا الصدد، بل تفتح أريجها الفوّاح والمعطر لتبثّه وتنشره على جميع المؤمنين أينما كانوا في مشارق الارض ومغاربها، حيث تُفتح أبواب السماء ببونها الشاسع واللامتناهي وتُغلَق أبواب النيران الكبيرة المُهلكة، لتنزل الرحمة على العباد وتتنزل الملائكة في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر لتقدِّر للعباد ما يرجون ويتوخون لما فيه خير الدنيا والاخرة.

إنّ أهم عطاء يمكن أن يستفيد منه العبد المؤمن في هذا الشهر هو الاستفادة من باب المغفرة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى فـ «شهر رمضان، شهر البركة، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر التوبة، وشهر الإنابة» كما يقول الإمام الرضا عليه السلام. وإنّ كل ليلة أو يوم أو ساعة من ليالي وأيّام وساعات هذا الشهر الفضيل تدعونا لاستثماره عبر الرجوع والعودة الى الله سبحانه وطلب التوبة.

  •  التوبة.. العودة الى رياض الايمان

والتوبة تعني فيما تعني الندم والحسرة على ما فَرَّط العبد في جنب الله، والإستغفار في محضر الله وسلطانه من ذنوبه وآثامه التي خلَّفت حجباً أدت إلى انقطاع العلاقة بين المخلوق والخالق، فإنّ الندم كخطوة اولى في باب التوبة، يُعتبر وسيلة مهمة وأساسية للعودة إلى رياض الايمان.

إنّ الكثير من الناس نراهم يدعي بانه تاب، ولكن في حقيقته يعيش الازدواجية في شخصيته، ففي داخل قلبه يستشعر عدم إقتراف الذنب ويعيش طوال عمره في حالة التبرير والخداع الذاتي، بينما هو غارق في الذنوب. هؤلاء حالهم كالنائم، ولكن بالموت سوف ينتبهون من الغفلة التي اصطنعوها لأنفسهم غروراً وتكبراً..

﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (البقرة / 9)

هـــؤلاء تنكشف الحقائــق لهم بعد فــوات الاوان، ثم يصـرخ احدهم : ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ولكـن يأتيهـم الجواب : ﴿كَلآَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُـونَ (المؤمنون: 99 ـ 100)

كما تستدعي عملية التوبة من الفرد التائب: العزم على عدم العودة، إذ يترك الكثير من الناس المعاصي والآثام لفترات معينة (إحتراماً) لشهر رمضان أو في بعض المناسبات الدينية، دون أن يتمكنوا من اتخاذ (قرار) التوبة الحقيقية النصوح، فسرعان ما تنقضي المناسبة حتى يعاودون إقتراف المحارم والآثام.

فاذا أردت أن تعرف إنّ توبتك مقبولة وحقيقية، اُنظر إلى ما بعد التوبة، هل إنّ الاعمال الخيرية والحسنة لديك ثقيلة أم خفيفة ؟ فإذا نادى المؤذِّن: الله اكبر.. حي على الصلاة، فهل تستجيب جميع جوارحك بما فيها قلبك بنشاط مع النداء لتنهض مسرعا وبإقبال إلى الصلاة ؟.. إنّ أداء عمل الخير بسهولة وبخفة بعد التوبة هو دليل على تحقق التوبة بكل شروطها والعكس هو صحيح أيضاً.

  •  شهـر المواساة

إنّ أهم ما فُرِض علينا في هذا الشهر العظيم هو المواساة للاخوان - كما في شهر شعبان - ونحن نقرأ فيه : " اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك، وارزقني مواساة من قتَّرت عليه من رزقك بما وسَّعتَ عليَّ من فضلك".

فشهر رمضان المبارك هو شهر المواساة خاصّة، وإنّ المؤمن يصوم ويمتنع عن الشهوات والأكل والطعام ليحس بألم الجياع والفقراء والمعوزين الذين هم بجوارنا.

إنّ المواساة تعني أنْ تنفق بما عندك من مال أو كلمة طيبة أو تقديم عمل خير للآخرين.. وهذا لا يعني أنْ تعطي وتنفق كل أموالك للآخرين، بل يكفي جزء قليل منه لتحس بالم الاخرين وترتقي إلى سُلّم الانسانية والكمال البشري.

كما إنّ مواساتك للذي فقد عزيزاً، وعيادة من أصيب بمرض وداء، وإرشادك للذي ضل في عمله عبر توجيهه ونصحيته لكي يُوفَّق في عمله الدنيوي والاخروي.. كل تلك تدخل في باب المواساة للاخوان.

من هنا يقول الرسول الاعظم في خطبة له في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم : " واتقوا النار ولو بشق تمرة" أي إنّ إعطاءك ولو تمرة واحدة للمستحق هي بمثابة تقوى من نار جهنم.

إنّ كثيراً من الناس - مع الاسف - يرفل في ظل النعم التي حباها الله له، ولكن ما زال يحس بالنقص المعنوي والنفسي، فكلما زاده الله نعماً شكى وطلب الاكثر.

إنّ الصوم يبعث فينا الشعور و الاحساس بالمسؤولية الدينية و الانسانية والرقة، ويلهمنا صفة الشكر، وضرورة دعم المحتاجين.

  •  وصايا رمضانية:

ومن هنا فان شهر رمضان الفضيل يدعونا الى التأكيد على عدة أمور أساسية منها :

 1- لابد أنْ نهتم بالبعد العقائدي لأنفسنا وأبناء مجتمعنا. إنّ ترسيخ الإيمان بالتوحيد والمعاد والعبادات والاخلاقيات والولاية لله وللرسول والائمة عليهم سلام الله أجمعين، هي كلها كفيلة في أنْ تقود الذات البشرية إلى الإرتشاف من معين قيم الحق والعدالة والفطرة والايمان بالله، خاصّة وأنّ ابناءنا وأطفالنا اليوم، وفي عصر الفضائيات والغزو الثقافي المادي الفاسد، هم أحوج إلى هذه الامور الهامة، حيث يعيشون الفوضى الفكرية، واضطراب الروح، وقلق النفس، وضبابية الرؤية.

إنّ رجال المنبر والصحافة ووسائل الاعلام المختلفة مدعوّون لترسيخ قواعد الايمان والفضيلة في عقول ونفوس أطفالنا وشبابنا ونسائنا وبكافّة السبل المختلفة ووسائلها المتعددة.

 2- ضرورة رفع الحجب بين الناس وكتاب الله. فلقد تحوّل القرآن الكريم - مع الأسف - بين الناس إلى عرف إجتماعي سائد، وتلاوته هي كذلك تدخل ضمن دائرة العادة المتداولة بين الناس.. لقد أصبح كتاب الله يقتصر على الفواتح والمآتم، بل حتى البعض يصعب عليه القراءة، فيأتي بقارئ لتلاوة القرآن للثواب ويعطيه مالا ليقرأ على روح موتاه، دون أن يتوجّه إلى كلمات القرآن، بل تجده مشغولاً بسفاسف الحياة الدنيا، وهذا بحد ذاته حجاب.

لابد للامة أنْ تعود إلى القرآن الكريم عبر التدبّر في آياته المباركات، وتلاوتها بتمعّن وتدبّر.. "ولا يكونّن هَم أحدكم آخر السورة " كما يقول الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام. فإنّ كل آية وسورة يتلوها المؤمن في كتاب الله هي خطاب موجّه له، وهي تقصده.

 3- ضرورة تقوية أواصر الحالة الاجتماعية بين المؤمنين في شهر رمضان المبارك، عبر التزاور بين الأرحام والأصدقاء. فالتزاور هي خطوة مهمة في رفع الحواجز النفسية العالقة في قلوب المؤمنين التي تكثّفت وتجمّعت عبر سوء الظن. فزيارة المؤمنين والدعاء لهم بالخير، والعفو عنهم، وإنْ كانوا هم المخطئين، هي بمثابة اللبنات الرصينة التي تجعل البناء في المجتمع الاسلامي متماسكاً ومتيناً.

كما إنّ الحث على التجمعات الايمانية والانتماء إليها والالتفاف حولها كالجمعيات والمؤسّسات الدينية والهيئات القرآنية هي الاخرى تقوي البنية الاجتماعية بين المؤمنين، ناهيك عن دورها الايجابي في بناء وتربية الشبيبة المؤمنة في مدرسة القرآن الكريم وبصائره الربانية.

 4- التثقيف الذاتي بالعلوم التربوية والاخلاقية والدينية. فالشهر الفضيل يُعدّ فرصة لتكميل البعد الثقافي والعلمي في شخصية الانسان المؤمن، وذلك عن طريق مطالعة الكتب الاخلاقية والدينية والعقائدية وعن حياة الرسول والائمة المعصوميـن عليهم صلوات الله أجمعين، وأخصّ بالذكر كتاب " تحف العقول " الذي يشمل وصايا الرسول الاكرم والائمة المعصومين الى شيعتهم.

 5- تعميق الولاء مع أهل البيت عبر التوجّه اليهم وطلب شفاعتهم، وأداء بعض صلوات النوافل وإهدائها اليهم، وبالطبع حاشا أهل البيت أن ينسوا من ذكرهم، كما لاننسى أن نقوي علاقتنا مع الامام  الحجة المنتظر المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

  خلاصة القــول؛ إنّ محــور (التقــوى) هو الهدف الرئيسي من تشريع فريضة الصيام في هذا الشهر الفضيل.. ﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة / 183)

نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يوفقنا لاداء فريضة الصوم في أيام هذا الشهر العظيم كاملة، وأنْ تكون المحافل الرمضانية التي سوف نستمتع بزادها الروحي محطة لنقلة نوعية في داخلنا، وأنْ يجعلنا ممن ينتصر بهم لدينه، ويجعلنا من الصالحين ويلحقنا بالائمة الهداة الميامين.