الإمام علي بن أبي طالب (ع) في دائرة مبغضيه
لم يكن الإمام علي واحداً من أولئك الذين مَرُّوا في التاريخ من دون أن يحفروا في جسده ما لا ينسى، وفي ذاكرته ما لا يحصى، لأنه اتصف بالكمال، واختص بالاصطفاء، إذ أن قدسية المكانة التي هو فيها استوجبت أن يكون دون الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وفوق البشر في المنزلة، بدءاً بولادته التي تميزت من حيث المكان التي تمت فيه، وهو جوف الكعبة المشرفة ببيت الله الحرام حينما كانت والدته تطوف بالبيت فجاءها المخاض فانفتح لها جدار الكعبة فدخلت ووضعت مولودها بداخل هذا المكان المقدس الطاهر، وكان ذلك في 13رجب من العام العاشر قبل البعثة.
ثم بالنشأة التي كانت في ظل عناية الله سبحانه وتعالى، وتحت ألطاف رعايته، حيث كان ملتصقا بالرسول محمد ، والتي وصفها في إحدى خطبه بما لا مزيد عليه من القول، لأن فيه الغاية وبيان المطلب لهذه المرحلة التي كانت غاية في الأهمية لقيام هذا الدين الحنيف، فقد قال : «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي، وأشم ريح النبوة [1] ». وهذا ما لم يحصل لأحد سواه، ولا ينازعه فيه منازع، مع الإعراض عن كل ما قاله المغرضون من المبغضين وغيرهم بأنه كان حدث السن، وهو ما لا يتنافى مع عظمة المكانة وعلو المنزلة، لأن الاصطفاء لا يقاس بالسن، حسب سنن الله.
وبعد النشأة ومؤازرته للرسول في قيامه بالإسلام، الذي خالط لحمه ودمه، فكان أول المؤمنين برسول الله والمناصرين له، والمجاهرين بدعوته، والبايت في فراشه ليلة الهجرة، والرادُّ لأماناته، وأمينه على سره، وناصره على أعداءه، ووصيه ووزيره، وخليفته من بعده، وما لا يعد من كثير مما أنفرد به أمير المؤمنين من خصائص. فكيف بعد هذا التاريخ المشرق، والسيرة العطرة لمن شاهد وعاصر وسمع ما لا يحصى من الكثرة مما لم نذكره، ومما مرَّ آنفاً أن يلامس قلبه ذرة بغض، أو أن يمتلأ قلبه بغضاً لعلي ؟
إن مما لا ريب فيه أن هنالك عدة أسباب وعوامل تداخلت في انعكاس حالة البغض على شريحة كبيرة ممن لم يدخلوا الإسلام، وممن دخلوه فيما بعد وانطووا تحت لواءه، منذ بدايات حياته مع الرسول مروراً بالدويلات المتعاقبة وحتى يومنا هذا وما بعده من الأيام.
إن حالة البغض والكره هذه، والتي تندرج ضمن حلقة النواصب لأهل البيت كانت متجذرة منذ الجاهلية، بين البيتين الأموي والهاشمي، وقد أفردت كتب التاريخ والأدب والسير لذلك أبواباً، بل ألفت فيها كتباً. وقد نمت هذه الحالة في حياة الرسول بعد مجيء الإسلام وامتداد رقعته، وانقدحت شعلتها بعد وفاته ، فاتسع قطر دائرتها باتساع مساحتها، وذلك تبعاً للأجواء التي نمت فيها، وللأيدي التي غذتها، وللأحضان التي هيئت لها مناخ التكاثر على امتداد خارطة الوطن الإسلامي، بل وفي خارج حدوده فيما بعد.
- ولعل أبرز أسباب حالة البغض هذه، هي:
1- حب الدنيا، أو ما يسمى بصراع المصالح، والذي جعل من مؤتمر تحت سقيفة لا تتجاوز بضعة أمتار كي ينقلب على كل ما أمر به الله سبحانه وتعالى، ونص عليه الرسول في حق الإمام علي في أمر الخلافة،ويلقي كل ذلك جانباً، ويتحول الأمر إلى من هو دونه، لتنسف كل قيم الدين، وتعلو مفاسد الجور.
2- الابتعاد عن منهج الله الذي قضى باتباع كل ما جاء به الرسول وعدم الحياد عنه، ذلك أن الإيمان لم يتشبع في قلوبهم، ولم يخالط شيئاً من لحمهم ودمهم.
3- عدم صفاء الطينة وهو ما عبرت عنه الأحاديث الشريفة المروية عن النبي وأهل بيته بكون الإنسان مرد على النفاق، أو طعن في نسبه كابن الزنا.
4- سياسة الإشباع والتجويع التي انفرد بها الأمويون، ثم من بعدهم العباسيون، وكل من تعاقب من بعدهم من أمراء الجور، وعبيد الدنيا، وتم ذلك بالنظر لكل من والى أهل البيت ، أو بثَّ لهم فضائلاً، أو روى لهم منقبة، أو قال فيهم شعراً، فيشطب اسمه من بيت المال، أو تهدم داره، أو يسجن، أو يلاحق، أو ينفى، أو يقتل. وفي المقابل كل من يحيد عن هذا النهج الحق الذي يسير عليه أهل البيت يملأ فمه بالدراهم والدنانير، وحتى الدلالير، وتنفتح أمامه الآفاق حسب ما يشاء ويشتهي.
5- التغذية الإعلامية، أو ما يعرف بالتعتيم أو التضليل الإعلامي، وهو الذي يتناول من حطِّ فضائل الإمام علي وأهل بيته ، أو إلصاقها بالمخالف لهم، ووضع أحاديث وروايات مختلقة في كل من حاد عن منهجه، وسلك خطاً غير خطهم، وقد تم ذلك عن طريق بث هذه الروايات والأحاديث بواسطة الكذابين والوضَّاعين بين الناس، أو دسها في بطون الكتب، أو عن طريق منابر اللعن التي استحدثها معاوية بن أبي سفيان للعن الإمام علي ، والتي عملت دورها، وأخذت مداها من الانتشار والتأثير في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، حيث نمت عليها نفوس وضيعة، وتعاقبت عليها أجيال مخدوعة، فقد مورست هذه التغذية لسبعين سنة من على ثمانين ألف منبر، قال الشيخ أحمد الحفظي الشافعي في أرجوزته :
وقد حكى الشيخ السيوطي أنه قد كان فيما جعلوه سنه
سبعـون ألف منبر وعشرة من فوقهن يلعنون حيدرة
1- عدم الوعي السياسي أو الإلمام بخلفيات الصراع الديني التي مرت في التاريخ الإسلامي، حيث يصبح الإنسان ضمن جمع من الرعاع يساق حيثما يساقون، ويتغذى من نفس الزاد الذي عليه يجتمعون، غير مفعل لما وهبه الله من عقل، فينضم بذلك إلى قائمة كثير من المخدوعين والمغررين، الذين أجوف، وثقافة مفردات التفسيق والتكفير، والحرام والشرك، وسيرة السلف الصالح، من التلبس بهيئة العباد حيث طول اللحى، وقصر الثياب، و و و مما ينفر من الانتماء لدين هو أسمى وأرفع وأوسع من هذا الضيق الذي حشروا أنفسهم فيه. وعدم الوعي هذا استغل بشكل جيد من قبل المبغضين، فأنفذوا من خلاله كل ما توصل إليه الفكر المنحرف في استنساخ رعاع آخرين ليواصلوا نفس الدور، ويسلكوا نفس النهج.
إن من الجدير ذكره هنا بعد استعراض أهم أسباب حالة البغض لأمير المؤمنين ، أن شخصية هذا العملاق وبعظمته الآسرة لم تأخذ مداها كما ينبغي من الانتشار والعالمية، نتيجة لأسباب حالة البغض هذه. ولكن ما يبعث التفاؤل في هذا العصر هو حسنات الانفتاح الإعلامي بكافة أنواعه، التي أتاحت الكثير من فرص الخروج من عنق الزجاجة، والتنفيس من ضيق الخناق الذي يعيشه شيعة أهل البيت ، والأيام تبشر بانبعاث فجر جديد تشرق فيه شمس علي بن أبي طالب على كل المعمورة، كما أشرقت شمسه يوم ولادته.