دجل الكلمة باسم الثقافة والتدريب ( 3 )
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في بداية هذه السلسلة عن البرامج والدورات التي تنظمها البرمجة العصبية المعروفة ( N.L.P) وعن الصراع القائم بين المختصين وعلماء الدين من جهة ومدربي هذه البرامج من جهة ، ثم تحدثنا عن البعد الإعلامي والمادة المطروحة والمعتمدة في هذه البرامج ، وننهي هذه السلسلة بالحديث عن جانب محايد لهذه البرامج بالإضافة إلى رصد جوانب تنم عن تجربة واقعية لها .
• نظرة وسطية
وجدت شريحة وسطية في المجتمع تقف بين المؤيد والمعارض لهذه البرامج لكنها في نفس الوقت تشدد على نقطتين مهمتين خاصة عندما نقرر التعاطي معها، فالنقطة الأولى : تركز على دراسة هذه البرامج دراسة موضوعية مستوفاة من جميع الجوانب والحيثيات تناقش فيها المادة المعروضة ضمن صياغة نقدية وتخصصية في مجالها بما في ذلك النظريات والآراء التي لاتنسجم مع البعد العلمي والدراسات الميدانية التي تؤيد أو ترفض هذه الأطروحات ، لكي يمكننا تمحيص المادة بشكل دقيق ثم البت في قبولها أو أرفضها .
أما النقطة الثانية : وتأتي بعد فرز الإيجابيات والسلبيات والاجتماعي وذلك بعد التأكد من توافقها مع المضامين العلمية والمقاييس التربوية المبنية على دراسات وبحوث واقعية وميدانية والقبول ببعض الآراء والأطروحات التي تساعد على اكتشاف المواهب وتنميتها والرقي بالعلاقات البشرية وتحقق جواً مألوفاً مع اكبر شريحة ممكنة من المجتمع ، بالإضافة إلى خلق توازن نفسي للفرد وتفعيل دوره المهني والاجتماعي .
• شيء من الواقع
لاشك إن الملتحق والمتتبع لهذه الفعاليات من المثقفين والمختصين يخرج بحصيلة جيدة في قدرته المبدئية على تقييمها ورصد فجواتها وثغراتها بالإضافة إلى معرفة سلبيات ونواقص مدربيها ، فمنذ انخراطنا في العمل الاجتماعي والأسري تتبعنا كثير الفعاليات والبرامج المندرجة تحت مسميات وأنواع عديدة ، خاصة أننا نطلع بشكل دوري على سِير المدربين والمحاضرين ونستقرأ إعلاناتها الجذابة ، فلاحظنا أن معظم هذه السير والإعلانات لاتخلو من عبارات هلامية مبالغ فيها خاصة إذا ما قورنت مع المادة التي يلقيها أولئك المدربين .
ومن ضمن هذه المواقف كنت أدير إحدى الفعاليات ضمن حضور نسائي ورجالي لشخصية من هذا النوع ، فبدء ندوته برسم عدد من الأشكال والمربعات والمثلثات التي ألفناها في مثل هذه البرامج ، وفي نهاية الندوة طلب من الحضور أن يقعدوا ، قوموا بطريقة تثير الضحك ، ثم قال : تنفسوا عميقاً ، أرفعوا أيديكم إلى أعلى ، عندها ارتسمت البسمة على شفاهنا وكأننا جئنا لنتدرب اليوقا ، فلم يخفي عدد كبير من الحضور من تذمرهم واستهجانهم وكأنه جاء ليستخف بفكرهم وعقولهم .
ومن المواقف الأخرى اتصل بي هاتفياً أحد مدراء مراكز التدريب لينقل لي صورة من هذه الصور فقال : تلقيت اتصال من أحد المدربين ليعرض عليّ وبالإلحاح تنظيمه لبرنامج أسري متكامل بمصطلح وعنوان يثير الانتباه لا أحب ذكره ، ووعد أن الملتحقين ببرنامجه سيكونوا قادرين على حل جميع مشاكلهم الأسرية بدون الرجوع إلى أي أحد ، وهذا طبعاً بسعر زهيد !! ، فربما والله العالم أن لديه عصا سحرية أقوى من عصا موسى بن عمران عليه السلام تستطيع تغير البشر وحل مشاكلهم بلمح البصر ونستغني بعصاه عن فكر العلماء والمصلحين !! ، فقلت له بعبارة موجزة : إنه السخف والدجل بعينه !! .
وفي إحدى الدورات التدريبية عرض أحد المدربين مادته التربوية وكان من بين الحضور عدد من المختصين في مجال علم النفس والتربية عندها احتدم النقاش بينهم وبين المحاضر ، فأوقفوه على ثغرات وفجوات كبيرة فيما طرحه من رؤى وأفكار ، بالإضافة إنه لم يستطع مجاراتهم في تحليل وتفسير مادته المعروضة أوصلته في نهاية المطاف إلى حالة من الإحراج أمام متدربيه ، لأن أمثال أولئك يقدمون مادة محفوظة متكررة تخلو من لب الثقافة ولا تنم عن حصيلة متكاملة وأدلة وثيقة .
كما لاحظنا أن بعض مشجعي ومتبني هذه البرامج ينظمون جملة من الفعاليات يختارونها فيها مدربين تحكمهم بهم علاقات شخصية ولا يتم اختيارهم بناء على أدائهم وكفاءتهم ، فكانت بعض الفعاليات محكومة بإطار شخصي وقواسم مشتركة لانريد الخوض فيها ، فيما لاتخرج أهدافها عن الكسب المادي أو إعطاء هالة إعلامية لجهة معينة أو إبراز شخصية يراد إيصالها لعالم الشهرة والأضواء .
نهاية المطاف نقول : نحن لسنا من دعاة الانكفاء والرفض لأي برامج أو فعاليات تنظم داخل مجتمعاتنا ، بل نحن بشر نبحث عما يثري عقولنا وينمي قدراتنا ولكن لابد على المتلقي أن يكون على مستوى كبير من الوعي والذكاء يستطيع من خلالها تتبع عطاء المدربين وكفاءتهم وفيما أقحموا أنفسهم فيه ؟ والتأكد من أصول وفلسفة وفاعلية هذه البرامج خاصة تلك البرامج المتعلقة بدورات الطاقة والتفاؤل وبناء الشخصية ومايعرف بالتنفس التحولي والإيحائي وغيرها .
كما نشدد في نفس الوقت على عدم الانبهار بهالة العناوين الجاذبة والعبارات اللامعة التي تسبق أسماء المدربين وإعلاناتهم البراقة ، وأخذ مشورة ذوي الاختصاص والاهتمام في هذا الشأن.
وخلاصة الأمر أقول: إن العلم لم يتعارض يوم من الأيام مع مفهوم الكلمة والثقافة وتفسيراتها ، إنما يتعارض مع توظيف الكلمة وصبها في قالب عسلي مغشوش يجذب البشر إليه وعند تتذوقه تدرك إن أغلب ما جاء به أمثال هؤلاء لايعدو إلا دجلاً باسم الثقافة والتدريب .