العوامية الشيخ السعيد : كيف نفعل الإرادة الاجتماعية؟
- صدر الخطبة:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فلا يوجد فاصلٌ يمنع الإنسان من لقاء الله إلا الموت والأجل. والإنسان العاقل هو الذي يتوقف عند هذه الحقيقة، بل يبني عليها مسيرته في هذه الحياة.
الإرادة الاجتماعية نقطة مركزية:
إن كل المجتمعات إلا ما شذ منها تتضمن في داخلها حركة من أجل الوصول إلى التغيير الجذري والإصلاح الشامل، وذلك لأن الله سبحانه فطر الإنسان على مجموعة من القيم العليا التي يتطلع إليها كل إنسان سوي، ولكن حركة المجتمعات نحو تحقيق التغيير الجذري والإصلاح الشامل متفاوتة، فهناك من المجتمعات من تقود زمام الإصلاح بإرادة صلبة وعزيمة راسخة، حتى أصبحت مضرب المثل لما دونها من المجتمعات، بل أصبحت بمثابة الحلم البعيد الذي تراه ما دونها من المجتمعات في أحلامها.. وهناك من المجتمعات من تتحرك نحو تحقيق الإصلاح الجذري والتغيير الشامل ولكن إرادتها إرادة خائرة ضعيفة، وخطواتها بطيئة يتخللها وقوف بين خطوة وأخرى.
إن تحقيق الإصلاح الجذري والتغيير الشامل متوقف على وجود الإرادة الاجتماعية وعلى فاعليتها، وحينما نتأمل في الحضارات الإنسانية نجد أنها انعكاس ونتيجة لإرادة اجتماعية حقيقية نحو الإصلاح، وعلى العكس تماماً حينما تخور الإرادة الاجتماعية، تتخلف المجتمعات، ولا يكون هناك أي تفاعل مع حركات الإصلاح، فلا يمكن لقيادات المجتمع أن تنجح في تحقيق التغيير الكبير الذي تتطلع إليه.
فعلى الساحة الدينية تجد أن هناك من يتحمل مسؤوليته الرسالية من أجل الرقي بالمجتمع إلا أن المجتمع لا يكاد يتفاعل، وهكذا على الساحة السياسية تجد بأن هناك من القيادات الرسالية من يتحمل مسؤوليته في السعي نحو الإصلاح السياسي إلا أن المجتمع لا يكاد يتفاعل، فالمجتمع الذي يمتلك إرادة اجتماعية نحو الإصلاح هو الذي يتفاعل ويتحرك بكل إصرار وتصميم مع مسيرة الإصلاح على جميع مستوياتها، وحينما تكون الإرادة الاجتماعية ضعيفة وخائرة فإنها تقوض جهود الإصلاح وتقتلها في مهدها.
هل أننا نمتلك إرادة اجتماعية؟
وهنا يأتي السؤال الخطير، والنقطة المفصلية: هل أن مجتمعاتنا تمتلك إرادة حقيقة نحو الإصلاح الجذري والتغيير الشامل أم لا؟
حتى يحدد كل مجتمع من المجتمعات موقعه في مسيرة الإصلاح، لا بد أن ينظر إلى واقع المجتمعات المعاصرة، فيقارن بين واقعه وبين واقع تلك المجتمعات، وحينها يعرف المجتمع هل أنه من المجتمعات التي تقود لواء الإصلاح والتغيير، أم أنه من المجتمعات التي تقبع في مؤخرة الركب؟
ولو نظرنا إلى واقع كثير من المجتمعات، وقارنا بين الحراك الاجتماعي نحو الإصلاح في كثير من المجتمعات في الدول الأخرى وبين مجتمعاتنا، لعرفنا بأن مجتمعاتنا مع ما أبدته من تقدم إلا أنها لا تزال متأخرة، بل إن مسيرة المجتمع ستظل تراوح مكانها ما لم ينظر في السلبيات ونقاط الضعف من أجل حلحلتها، فهذا التأخر ما كان ليكون لو لا وجود السلبيات والثغرات في شخصية المجتمع.
نحن بحاجة إلى أن نتساءل: كم هي نسبة الشريحة الاجتماعية التي تتفاعل مع أجل قضاياها المصيرية، وتتحرك من أجل تحقيق التغيير الجذري والإصلاح الشامل، وتتفاعل مع الحراك الديني؟
لو جئنا إلى الجمهورية الإسلامية في إيران لوجدنا النسبة الهائلة من الشعب الإيراني تتفاعل مع قضاياها وتتحرك من أجل تقرير مصيرها، أربعين مليون إنسان يشارك في الانتخابات الرئاسية، لا شك أنه عدد هائل جداً، ولا شك أن هذا المشاركة الضخمة تعكس حضور الإرادة الاجتماعية في المجتمع الإيراني، وبالطبع أن الإرادة الاجتماعية تغيب وتحضر بناء على الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، وبناء على الاستعداد الروحي، وبناءً على الاستعداد الحركي.
ولك أن تلاحظ نسبة الشريحة الاجتماعية في مجتمعاتنا التي تتفاعل مع مسيرة الإصلاح على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي، في أحسن الحالات الذين يتفاعلون مع مسيرة الإصلاح لا يتجاوزون 10% من أنفاس المجتمع، ومن الواضح والبديهي بأن تحقيق التغيير والإصلاح رهينٌ بفاعلية الإرادة الاجتماعية، وبدونها لا يتحقق شيء على أرض الواقع، فالمجتمع الذي يتفاعل مع مؤسساته الدينية وحركته الرسالية هو الذي يستطيع أن يحقق تطلعاته وأهدافه الكبرى في الإصلاح، فالحراك الذي تبديه بعض القيادات والنخب لا يكون له صدى وأثر في الواقع الخارجي ما لم تكن الإرادة الاجتماعية حاضرة وفعالة، وحينما تكون الإرادة الاجتماعية غائبة عن مسرح الأحداث، وبعيدة عن حركة الإصلاح، فهذا يعني أن ثمة خلل لا بد من علاجه.
إن المجتمع الذي يتصف بالرشد والتعقل هو الذي ينظر في مسيرته ليقيمها، حتى يعالج ما فيها من نواقص وسلبيات، فشخصية المجتمع بحاجة إلى تقويم، والمطلوب فعلاً هو علاج شخصية المجتمع، على المستوى الثقافي، وعلى المستوى الروحي، وعلى المستوى الحركي، حتى تمتلك مجتمعاتنا إرادة حقيقية نحو الإصلاح.
وهنا يأتي السؤال: ما هي الأمور التي تكبل إرادة المجتمع؟
لا شك أن المجتمع عبارة عن أفراد، وعلاج الأمراض الاجتماعية العامة لا يكون إلا من خلال علاج أمراض الأفراد، ولهذا علينا أن نبحث عن الأمور التي تكبل إرادة الفرد، لأن الإنسان متى ما تكبلت إرادته، متى ما أصبح عاجزاً عن البناء والحركة، حيث يعجز عن بناء نفسه فضلاً عن بناء مجتمعه، ولهذا لنا أن نتساءل ما هي الأمور التي تكبل إرادة الإنسان؟
إتباع الأهواء والشهوات
الأمر الأساس الذي يكبل الإنسان هو إتباع الأهواء والشهوات، وإتباع الأهواء والشهوات يحول الإنسان إلى إنسان مخملي عاجز مثقل بالأهواء والشهوات لا يقدر على شيء، والإنسان المثقل بالأهواء والشهوات عاجز عن بناء نفسه فضلاً عن بناء المجتمع، ولهذا فإن المجتمع الذي تكبل إرادته الأهواء والشهوات غير قادر على الإصلاح وهو عاجز أن يبني واقعه، لأن أبناء هذا المجتمع هم أتباعاً للأهواء والشهوات وليسوا أتباعاً للقيم البنائية.
ولا شك أن هذه المسألة نسبية من فرد لآخر، فهناك من الناس من يتبع هواه في أغلب الأمور، وهناك من يتبع هواه في أمور أقل، وبقدر ما يتبع الإنسان من هواه بقدر ما يفقد من إرادته.
الجهل:
فالناس أعداء ما جهلوا.. والمجتمع الذي يمتلك الوعي بأهمية الإصلاح هو الذي يتحرك من أجل ذلك، أما حينما يفتقد المجتمع البصيرة في أمره تراه يطوي كشحاً عن الحركات الرسالية، ومجتمعاتنا لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوعي بأهمية الإصلاح، وبأهمية الالتفاف حول التيارات الإصلاحية، لأن هذا الوعي هو الذي يحرك المجتمع ويدفعه من أجل تحمل مسؤوليته.
فقدان الكفاءات والكوادر العاملة:
إن إرادة المجتمع في الحقيقة هي قيادته وطاقاته، والمجتمع الذي يفقد الإرادة الاجتماعية هو المجتمع الذي يفقد القيادات والطلائع الرسالية والكوادر العاملة، فهذه الفئة هي التي تصنع الإرادة الاجتماعية، لأنها هي الفئة التي تبادر وتسعى من أجل تحقيق التغيير.
ولهذا حينما يفتقد المجتمع إلى البصيرة الثقافية، وحينما يكون حبيساً لأهوائه ورغباته، وتقل فيه القيادات والكوادر العاملة لا شك أن هذا المجتمع مجتمع مهلهل الإرادة.
مسؤوليات النخب الدينية والثقافية:
إذاً، الإرادة الاجتماعية لا بد أن تفعل، هنا يأتي السؤال: على من تقع مسؤولية التغيير الاجتماعي وتحقيق متطلبات الإصلاح، ومن هي الفئة التي يجب عليها أن تسعى من أجل تفعيل الإرادة الاجتماعية؟
لا شك أن المؤسسة الدينية هي من تتوجه إليها مسؤولية التصدي لمتطلبات الإصلاح، قبل غيرها من الفئات الاجتماعية، خصوصاً علماء الدين حيث أن مسؤوليتهم الأساسية -كما كانت مسؤولية القيادات الإلهية- هي السعي من أجل تحقيق الإصلاح، وما لم يكن العمل الديني والرسالي قادر على تحمل تلك المسؤوليات الكبرى، فإن المجتمع سوف يراوح مكانه من دون تغيير حقيقي وواضح وملموس، ولكن في الحقيقة المسؤولية كما هي ملقاة على علماء الدين، كذلك هي ملقاة على النخب الواعية والمثقفة، أن تساهم في تحرير الإرادة الاجتماعية.
وهنا نؤكد على ضرورة مراجعة التاريخ السياسي للدول التي نهضت وتقدمت على الصعيد السياسي، فحتى نتعرف على عوامل الإصلاح والتغيير السياسي لا بد لنا من مراجعة التاريخ، فالتاريخ السياسي حافل بالأحداث والمواقف التي نتمكن من خلالها من استلهام السنن والرؤى التي تنير لنا واقعنا، ولو راجعنا تاريخ الدول التي حققت الإصلاح والتغيير في الحقل السياسي- سواء الدول الغربية أو الدول الشرقية- لوجدنا بأن هذا التاريخ يمدنا بكثير من الحقائق، وعلى رأس تلك الحقائق أن الإرادة الاجتماعية هي التي تصنع الإصلاح والتغيير، وأن العنصر الأساس للتغيير هو إرادة الشعوب، وكما يقول أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجـــــــــلي ولا بد للقيــــد أن ينكسر
ولكن أي مجتمعات هي التي تريد الحياة؟! المجتمعات المخملية لا تريد الحياة بالقطع واليقين، فهي مثقلة بالكسل وحب الراحة وإتباع الأهواء والشهوات، ولا يمكن لها أن تنهض نحو الإصلاح أو أن تتفاعل مع الحركة الرسالية ما لم تتخلى عن مخمليتها.. إن المجتمعات الغربية لو كانت مجتمعات مخملية تركن إلى الدعة والراحة لما تمكنت من تحقيق الإصلاح والتغيير، ولهذا فهي قد تحملت ما تحملت حتى وصلت إلى أهدافها وتطلعاتها.
والقرآن الكريم يؤكد على ضرورة النظر في التاريخ من أجل استلهام الدروس والعبر، يقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)[1] فإذا أردنا أن نغير من واقعنا، وأن نطوي صفحات التخلف التي لا تزال تلازمنا لا بد لنا أن ننفذ إلى سنن التاريخ، وأن نقرأ مسيرة المجتمعات.
تفعيل الإرادة الاجتماعية
ولهذا فإنه من المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق الحركة الرسالية والنخب المثقفة تفعيل الإرادة الاجتماعية، وإزالة القيود والأغلال التي تكبل إرادة المجتمع، وتمنعها من الانطلاق، ولا شك أن تفعيل الإرادة الاجتماعية وبعثها من جديد لا يكون إلا من خلال مسيرة متواصلة من العمل، وهنا نؤكد على عدة مسؤوليات يجب على المؤسسة الدينية والنخب الثقافية أن تتحملها.
الأمر الأول: توعية الجماهير:
حينما نراجع تاريخ كل الحركات الإصلاحية نجد أنها مسبوقة بحركة فكرية توعوية تؤديها القيادات والنخب الفكرية، فحتى يتحرك المجتمع لا بد من وعي يسبقه، ونحن حينما نأتي إلى الحركات الإصلاحية الأوروبية في العصور الوسطى نجد بأنها قامت على أساس النهضة الفكرية، حتى أن هناك بعض المفكرين بحث عن هذه العلاقة، نهضة الفكر هي التي أدت إلى الحركات الإصلاحية.
ولهذا من المسؤوليات الأساسية الملقاة على عاتق المؤسسة الدينية والنخب الثقافية بث الوعي في صفوف الجماهير، وبالطبع أن التغيير الثقافي هو حركة تفاعلية بين القيادات والنخب وبين الجماهير، فكما أن القيادات والنخب لا بد أن تؤدي مسؤوليتها الفكرية والتوعوية، كذلك الجماهير مسؤوليتها أن تتفاعل مع الأطروحات الثقافية التي تقدمها القيادات والنخب المثقفة، ومجتمعاتنا بحاجة إلى من يغذيها بالوعي ويبعث إرادتها من جديد، فتنهض من هذا الواقع إلى واقعٍ أفضل.
الأمر الثاني: تخريج الكوادر:
حيث أن العمل الرسالي أمامه تحديات كثيرة ومسؤوليات متعددة، على الصعيد الديني وعلى الصعيد السياسي، ولا شك أن العمل الرسالي لن يتمكن من تحمل هذه المسؤوليات الكبرى إلا من خلال امتلاك الطاقات والكفاءات.
إن الطاقات والكوادر التي تمتلك الكفاءة و تتحلى بالمسؤولية هي التي تصنع الإرادة الاجتماعية، لأنها هي القادرة على الفعل والحركة حينما تكون الظروف ملائمة للتغيير، ولهذا من الضروري جداً أن تسعى الحركة الرسالية من أجل تربية الكفاءات وتخريج الطاقات، حتى تؤدي دورها ومسؤوليتها حينما تكون الظروف مؤاتية، فهؤلاء يشبهون البذور الطيبة التي تبقى تحت التراب منتظرة المواسم الخيرة، فأنت تحرث الأرض وتزرع، وتبقى البذور تحت التراب لا تهتز ولا تتحرك، وتبقى هكذا حتى يأمر الله سبحانه السحب أن تسقي الأرض مطراً، فتتهيأ الظروف لتنبت هذه البذور المودعة في رحم التربة، وهكذا هم العاملون في الحقل الرسالي ينتظرون الظروف حتى تصبح ملائمة.
إن الحياة الخارجية بما فيها من معطيات سياسية وثقافية قد تفتح الفرص من أجل تغيير بنية المجتمع و استعدادته، إلا أن المجتمعات قد لا تكون مهيأة لذلك، ولهذا مهما كان مستوى الجهود التي تبذلها القيادات فإنها لا يمكن لها أن تثمر وتأتي بنتائج حقيقية ما لم تكن هناك طاقات وكفاءات وكوادر تعمل جنباً إلى جنب مع القيادة الربانية.
ولا شك أن العاملين في الساحة من قيادات ونخب ثقافية لا يتمكنون من تغيير الجماهير ما لم يكن هناك استعداد من قبل الجماهير، وما لم يكن هناك انتماء من قبل الجماهير إلى أطر عمل، وهذه مسألة هامة وضرورية، فالإنسان بفعل الانتماء إلى تجمع ديني أو ثقافي تتحفز إرادته وتتفجر طاقاته، أما حينما لا ينتسب الإنسان إلى جماعة أو انتماء، فهو غالباً لا يستثمر ما لديه من طاقات وقدرات.
والقرآن الكريم يؤكد بأن السلوك الجمعي له تأثير كبير على إرادة الإنسان، حيث يقول تعالى مخاطباً نبيه الأعظم : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[2] وهذه الآية تذكر بأن انتماء الرسول إلى موكب الأنبياء الممتد عبر التاريخ يثبت إرادته وعزيمته، وهكذا كل إنسان ينتمي إلى جماعة مؤمنة، انتماؤه للجماعة المؤمنة يصلب من إرادته وعزيمته.
وهكذا حينما يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[3] فالمؤمنون لا بد أن يشكلوا تجمعاً وإطاراً للعمل، يسعون من خلاله إلى تحقيق الأهداف والتطلعات، ولا بد أن يتصفوا بالصبر والمرابطة والتفرغ وبذل أقصى الجهد لعل الله يكتب لهم الفلاح، والآية تؤكد على الحالة الجمعية لأنها تمد الإنسان بالعزيمة والإرادة.
وقفة مع المؤسسة الدينية:
ونحن هنا نقف وقفة مع المؤسسة الدينية ومع النخب، لأنه ما لم تكن هناك قفزة حقيقية في مسيرتها الإصلاحية، فهذا يعني أن المجتمع سوف يراوح مكانه من دون تغيير حقيقي، فالمسيرة بحاجة إلى مسارعة في العمل وإلى مضاعفة الجهود، بل وتغيير كثير من الأوضاع السلبية القائمة التي تحول دون تأدية العمل المطلوب.
وختاماً أقول: إن إرادة المجتمع هي التي تصنع الإصلاح، وهذه سنة اجتماعية وتاريخية، ووظيفة المؤسسة الدينية وغيرها من النخب الثقافية والاجتماعية أن تسعى من أجل تفعيل هذه الإرادة حتى تكون حاضرة متفاعلة مع قضاياها المصيرية، كما أن وظيفة المجتمع أن تتفاعل مع حركة الإصلاح والتغيير، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
الخطبة الثانية: المرأة والدور المطلوب
- صدر الخطبة:
عباد الله اتقوا الله، فإن التقوى هي الحبل الإلهي الذي من تمسك به نجا، ومن تركه غرق فهوى، ومشكلة الإنسان أنه يغفل عن هذه الحقيقة، بل أن الأمر أدهى من ذلك وأمر، فهو يظن بأن الحديث عن التقوى ونبذ الدنيا ضربٌ من المثاليات الذي لا طائل منه، وهكذا يحجب الإنسان نفسه وبفعل الوساوس الشيطانية عن الموعظة التي تذكره بمسؤوليته إزاء الحق وإزاء الآخرة.
إن من عناصر القوة التي يتميز به الفكر والثقافة الشيعية، أنها تتصل بسيرة أفضل البشر، الرسول الأعظم وأهل بيته عليهم السلام، حيث تمثل سيرتهم ومسيرتهم عليهم السلام المنار والشمس المشرقة لكل إنسان، إذ أن حقيقة التشيع هي أخذ المنهج الإلهي منهم عليهم السلام، والاستنارة بسيرتهم الطاهرة والمقدسة، ولهذا فإن مسيرتنا لا بد أن تتصل بمسيرة أهل البيت ، فانتسابنا لأهل البيت هو انتسابٌ منهجي قبل كل شيء آخر.
ولهذا من الضروري أن نقف عند هذه النقطة: كيف نستفيد من الشخصيات العظيمة المشرقة، حيث أن هذا المذهب يتميز عن غيره من المذاهب الإسلامية أنه الذي التزم وصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام، تلك الشخصيات العظيمة التي نتولاها وننتسب إليها، ولهذا من الضروري أن نمتلك رؤية واضحة للاستنارة بسيرة أهل البيت والأئمة الأطهار عليهم السلام.
كيف نستفيد من الشخصيات العظيمة؟
لا شك أن الشخصيات العظيمة تنير للإنسان آفاق الهداية والتكامل، لكن أشير إلى نقطة مهمة للمتدينين والعاملين في الساحة، فالشخصيات العظيمة التي يزخر بها تاريخ الأمة وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السلام قدمت أروع الدروس في تجاوز الضغوط التي تحول بين الإنسان وبين التدين وبين تحمل مسؤولياته الدينية، حيث أنه من أبرز العقبات التي تواجه الإنسان في مسيرته الدينية الضغوط التي تأتي له من كل حدب وصوب لكي تركع إرادته، وهذا ما نراه في الواقع الخارجي، حيث أن هناك كثير من الطاقات والكوادر الدينية التي كانت تعمل في الساحة، وكان لها حضور بنسبة أو بأخرى تركت الساحة ورفعت يدها عن كثير من الأدوار السابقة بسبب ضغوط الحياة.
وحينما نراجع سيرة أهل البيت عليهم السلام نجد بأنهم كانوا تجسيداً واضحاً للاستقامة على خط الرسالة، مع ما واجهوه من ضغوط، وكان من أبرز تلك الضغوط الضغوط السياسية، ومع ذلك لم يحيدوا عن مسؤولياتهم ومسيرتهم، ونحن لا يمكننا أن نستنير بسيرة أهل البيت عليهم السلام ولا بسيرة غيرهم من العظماء إلا إذا استحضرنا إنسانيتهم، فهم كانوا بشراً مثلنا يشعرون بالضغوط ويتألمون للآلام، إلا أنهم صمدوا واستقاموا وقهروا ضعف النفس بصلابة الإرادة وعزيمة الإيمان.
وقفة تأمل وتقييم لمسيرة المرأة:
وفي هذه الأيام وحيث نعيش ذكرى ميلاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام حريٌ بنا أن نقتبس من سيرتها ما ننير به واقعنا، فالسيدة الزهراء عليها السلام سطرت للإسلام النموذج الأمثل للمرأة، في اهتماماتها في أدوارها، وفي موقعها المحوري على صعيد الأسرة وعلى صعيد الرسالة، وفي هذه الذكرى من المهم جداً أن نقف وقفة تأمل عند مسيرة المرأة وفي الأدوار التي تتحملها في الساحة الدينية والاجتماعية.
في السابق كان الفكر المتشدد يضع الحواجز والسدود ويحول بين المرأة وبين الانخراط في العديد من النشاطات، بل لم يكن الفكر المتشدد يؤمن بحق المرأة في المساهمة في بناء الواقع الخارجي مع المحافظة على عفتها، ولكن وبعد أن هبت موجات التنوير الثقافية تغيرت كثير من المواقف الاجتماعية المتشددة، وانفتحت للمرأة كثير من الأبواب الموصدة، وأصبحت المرأة قادرة على أن تساهم في بناء كثير من المواقع الدينية، وأسدل الستار عن المرحلة المتشددة وفتحت الأبواب لعصر مشرق تساهم فيه المرأة في بناء الصرح الاجتماعي.
فالتغير الثقافي والاجتماعي أرجع للمرأة بعضاً من حقوقها المهدورة والمضيعة، فصارت المرأة جزء حقيقي في العمل الديني، وانعكس ذلك على المساجد والحوزات والمراكز الدينية التي صارت تولي المرأة اهتماماً خاصاً، فتفتح لها أقساماً خاصة، من أجل مزيدٍ من الاهتمام والعناية.
وهنا لا بد أن نتوقف ونتساءل: هل أن المرأة نجحت في استغلال التغير الثقافي والاجتماعي بما يعزز دورها في بناء الواقع، أم أن المرأة تغافلت هذا التغير وبقيت على ما كانت عليه.
وهنا ثمة أمور لا بد من الوقوف عندها، ومن أهم الأمور التي ينبغي أن نتوقف عندها هي قضية الجدية، فالمرأة صارت تلتزم بالحضور في المسجد فتحضر صلاة الجماعة والجمعة وتحضر الحوزات الدينية وما شابه من برامج، فهل أن المرأة التي تحضر مثل هذه المحافل والبرامج صارت تتعامل معها بجدية والتزام أم لا؟
وهكذا فيما يرتبط ببناء الذات وبناء القدرات الذاتية، المرأة لا بد أن يكون لها نصيب من الإبداع، فالمرأة تمتلك القدرة على المساهمة الفكرية والثقافية كما الرجل، ولعله في السابق لم يكن المجتمع يتقبل أن تكتب المرأة باسمها الصريح، لكن اليوم أصبح الأمر مقبولاً ولا توجد أي حواجز بهذا الخصوص، لكن مع ذلك تجد أن مساهمة المرأة في الحقل الثقافي والفكري دون المستوى المأمول.
نحن لا بد أن ننظر إلى واقعنا ونقف وقفة تأمل ونضع أيدينا على الجرح بكل جرأة وصراحة، ومسيرة المرأة كما هي مسيرة الرجل لا بد أن تتعرض للتأمل وللنقد البناء حتى نتمكن من المساهمة في بناء المجتمع، فصناعة النهضة وتشييد الحياة بحاجة إلى رصيد كبير من الطاقات والكفاءات، والمرأة تمثل نصف المجتمع على أقل التقادير، ولهذا ندعو المرأة أن تعيد النظر، وتقيم مسيرتها بذاتها، نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.