الشطّّار: واقع مرير و مجتمع لا يرحم.
من الفئات التي تتميز بطبائع معينة تجعلها مختلفة عن بعض بقية فئات المجتمع فئة الشطار. و هم فئة لا يجمعهم العلم و الغنى و لا يفرقهم الجهل و الفقر. منذ ألف عام بل ربما من العصر الجاهلي الأول و هم متميزون عن نسيج المجتمع العام. كلمة الشطار من الكلمات المولدة أي أصبحت متداولة بمعناها الجديد بعد عصر الجاهلية و صدر الإسلام. و الشاطر حسب القواميس هو الذي أعيا أهله لؤماً و خبثاً و مكراً و عاش بعيداً عنهم و جفاهم و آثر حياة اللهو و العبث. و لهم في العهد العباسي قصص و طرائف و حكايات كثيرة بل ألف فيهم البعض كتاباً باسم أخلاق الشطار. و من العبارات و النصوص الأدبية التي وصلتنا يظهر أن الشطار كانوا من الفئات المنبوذة و التي لا يتشرف أهل النسب و الدين بمعرفتهم فضلاً عن الانتماء إليهم و الكون منهم.
فمن صفاتهم التفاخر بالقوة و الفتوة و اللامبالاة بالأعراف الاجتماعية السائدة و التبختر في المشية و الوثب و يرتدون ملابس تميزهم عن سائر الناس و يتحدثون بطريقة هجومية ملفتة و لهم ممارساتهم و هواياتهم الخاصة.
و لنطل من نافذة النصوص الأدبية القديمة على واقعهم في ذلك الزمن:
1- آداب الأكل , ابن العماد الأقفهسي:
﴿ واقصد في مشيك ﴾ أي لا تثب وثوب الشطار.
2- الأذكياء , ابن الجوزي:
أنقل القصة باختصار , ففيها أن أحد الشطار صلى خلف إمام لا يحسن القراءة و الحفظ و عندما كرر الإمام قول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الشاطر ما للشيطان ذنب إلا أنك لا تحسن القراءة.
3- الأغاني , أبو الفرج الأصفهاني:
مر ابن تيزن المغني و قد ائتزر بمئزر على صدره و هي إزرة الشطار عندنا.
4- الإمتاع و المؤانسة, أبو حيان التوحيدي:
من كلام الشطار: أنا البغل الحرون (أي العنيد) , و الجمل الهائج أنا الفيل المغتلم لو كلمني عدوي لعقدت أنفه إلى شعر ...... حتى يشم ...... كأنه القنفدة.
5- الحيوان, الجاحظ:
و إن الشطار ليخلو أحدهم بالغلام الغرير فيقول له لا يكون الغلام فتى أبداً حتى يصادق فتى و إلا فهو تكش, و التكش عندهم الذي لم يؤدبه فتى ولم يخرجه.
6- تحسين القبيح و تقبيح الحسن, أبو منصور الثعالبي:
و الفتوة عند الشطار كناية عن التلصص.
7- طبقات الشعراء, ابن المعتز:
كان إسحاق بن خلف أحد الشطار الذين يحملون السكاكين و يظهرون التجلد للضرب.
8- فوات الوفيات, ابن شاكر الكتبي:
إسحاق بن خلف الشاعر المعروف بابن الطبيب من شعراء المعتصم كان رجلاً شأنه الفتوة و معاشرة الشطار و التصيد بالكلاب و إيثار أصحاب الطنابير. سؤشقب
9- مثالب الوزيرين, أبو حيان التوحيدي:
و أما الرعونة فما عليه الشطار من هؤلاء الشباب الجلد الذين يرفعون الحجر و يدعون الفتوة و يكثرون ذكرها و يحلفون بها و يسمونها (الجوامردية) ترى أحدهم يضيق الأكمام و يحل الإزار و يفتل السبال و يمشي متحاملاً و يتكلم متصاولاً.
من هذه النصوص و غيرها نستطيع أن نرسم صورة قريبة جداً لواقعهم و ربما كان الصعاليك في العصر الجاهلي أقرب فئة للشطار في عهد العباسيين , و الصعاليك هم فئة الفقراء و من يتجمعون للغارات و النهب و يتميزون بالبطولة و القوة الجسدية , أما في عصرنا فربما تكون الشلل الشبابية ممن ليس لهم وظيفة رسمية و من لا يبيتون مع أهلهم لا لغربة أو اضطرار بل رغبة في التحرر و اللهو و حباً للحياة المفتوحة فينامون مع بعضهم في المزارع أو في بعض البيوت التي يمكن استخدامها دون رقابة أصحابها.
هذه الفئة يتكلمون بأنفة ( نفخة ) و يمشون بتبختر ( نافخين صدورهم ) و يحملون أدوات العراك أو ربما أسلحة خفيفة ( رنج , سكين, عجرة) و يلبسون ألبسة لا يلبسها سائر الناس (لثام أسود و رومال ملون) ويطيلون أشعارهم و يربطونها كما تفعل النساء و يركبون السيارات و الدراجات ذوات الضجيج العالي و يظهرون عدم المبالاة بأعراف المجتمع و يستخدمون مفردات قد تكون خاصة بهم أو لا يكثر استخدامها لدى عامة المجتمع. يعمدون للفت الأنظار بأساليب استعراضية فيها الاستخفاف بالوقار و حسن السمت ويبالغون في ذلك و ربما انشغلوا بتربية الكلاب و غيرها مما يحرم بيعه و شراؤه.
و كما أن العصر الجاهلي منحهم اسماً و كذلك العصر العباسي فإنهم في زماننا و طبقاً للأوصاف المشتركة و الطبائع المتشابهة يبدو لي أن اقرب المصطلحات هي ( الدشر, الصيع, الفالتين, شلة الضغط) و أعتذر عن سوق هذه الكلمات و لكنها اللغة و ما تمليه وظيفتها علينا.
و المهم بعد هذا أن ندرك أننا مسئولون عن هذه الفئة أمام الله سبحانه وتعالى, فليس صحيحاً أن نرتاح بأننا طبقة تتميز بالنباهة و الثقافة و المال و المركز الاجتماعي المقبول ثم نتهم هذه الفئة بأنها خلقت هكذا من أجل الضياع و واللهو و العبث. لا أعتقد أبدا أن الله سبحانه خلق خلقاً ليشكلوا فئة تائهة في الحياة غارقة في خرائب الدنيا. صحيح أن الله خلق الناس مختلفين متمايزين عن بعضهم ليسخر بعضهم بعضاً فالأغنياء يسخرون العمال الفقراء لخدمتهم و العمال يستفيدون من تجارة الأغنياء و يسخرون الأطباء لخدمتهم و علاجهم , و كل طبقة و فئة من الناس تستفيد من الأخرى و بذلك يجري قانون التسخير في الكون.
و هذه فئة إن لم تعمل و تتقن صنعة أو حرفة تغنيها عن مد اليد على الناس اعتداءً أو مدها للناس استجداءً فهي خارجة عن الحالة الطبيعية لسنة المجتمعات السوية و تكون أشبه بورم في جسمه لا بد من معالجته. و لعلاج هذه الحالة المرضية لا يصح بالطبيب الحاذق أن يلجأ إلى الاستئصال أو الكي فإن ذلك من حلول العاجزين ولو وجد الأطباء لقاحاً أو دواءً ناجعاً للسرطان لما بترت ربع أنملة من مريض قط , و حتى لا تبتر أعضاء مجتمعاتنا الكريمة لا بد من تلمس حاجات هذه الفئة المحرومة:
1- الجوع العاطفي:
إن لكل إنسان في الدنيا حيزاً لا بد أن يملأه بالعاطفة, و لا فرق بين الصغير و الكبير و الذكر و الأنثى في أصل الحاجة للإشباع العاطفي و لكن تختلف هذه الأصناف في مقدار العاطفة و نوعها. فالطفل يحتاج إلى حنان الأمومة و الأبوة و كبار السن يحتاجون إلى تقدير الأبناء و الزوجان يحتاجان إلى مشاعر الزوجية الغامرة ولكل حالة عاطفتها الخاصة و مشاعرها المناسبة لها. و لسائل أن يسأل : إذا كان النقص العاطفي قد انتاب هذه الفئة من جهة الأسرة فكيف للمجتمع و أنى له أن يسد هذا النقص؟ و الجواب أن المطلوب هو التعويض و عدم زيادة الطين بلة , و المساعدة في إصلاح وضع ما يمكن من هذه الأسر لتقوم هي بالدور العاطفي المطلوب و بالتالي يستغني أبناؤها عن البدائل و التعويض من الآخرين.
2- المحفظة الفارغة:
لا أتصور أن شخصاً لديه وظيفة جيدة و يتقاضى راتباً معقولاً ( 3000 فأكثر ) يمكن أن ينتمي أو يصنف ضمن فئة الشطار في زماننا. إن الاستقرار المادي و توفر النقد بانتظام يفتح باباً للهدوء و التفكير في المستقبل بروية و يسد باب القلق من تحصيل اللقمة و سد الحاجات الضرورية. و لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الشباب من أهل القوة و الفتوة و الحماسة و النشاط فما الذي يمنعهم من الكسب الحلال و الكد من عرق جبينهم دون اعتداء على أحد أو إغارة على مال خاص؟ و الجواب: أن هؤلاء يمكن تشبيههم بالنبات الذي يحتاج إلى رعاية زائدة ليثمر وينتج, إن الليمون و اللوز و السدر (الكنار) من الأشجار التي لا تحتاج إلى رعاية فائقة بل ربما لا تحتاج إلى عناية أصلاً في بعض الحالات و لكن العنب و النخيل و الطماطم من النباتات التي لا تنتج و لا تثمر إلا بالعناية الفائقة فالعنب يشيد له العريش كالساباط و النخلة تنبت و تحدر و تروس و تخرف و تصرم و الطماطم تنصب له البيوت المحمية و الأنابيب ليعلق فيها بخيوط متدليه , وأعتقد أن هذه الفئة من المجتمع ممن يحتاج إلى مد يد العون ولكن بمعنى أخذهم إلى أبواب العمل و إعطائهم مفاتيح الرزق الحلال و إرشادهم للكسب بالطرق المشروعة و ليس بإعطائهم خردة من المال ينفقونها في برهة من الزمن ثم يعودون لما كانوا عليه.
3- نكرة لا يؤبه له:
من أنا ؟ لا أحد يعرفني, أنت ضائع في القرى و الأحياء فاصنع ما تحب و ما تشاء. من الأمثال الشعبية الجميلة ( إحنا ولاد اقريّه و كلٍ يعرف خيه ), من الملاحظ أن كثيراً من الناس لا يعتنون بمظهرهم و أوضاعهم كثيراً في السفر كما يفعلون عندما يكونون في بلادهم و بين أهليهم. إن فئة الشطار تشعر العزلة و الانفراد عن نسيج المجتمع العام فلا أحد يعرفهم و لا يعترف بهم و ليسوا ممن يشارك الناس همومهم و أفراحهم و قضاياهم الكبرى و لا الصغرى, لا يأبه لهم ذوو الشأن و لا دور لهم يشكرون عليه فيتحقق بذلك التعزيز الاجتماعي الذي تحدثنا عنه في فقرة الجوع العاطفي. و بما أنهم من أنصار الفتوة و القوة و ( الفزعة ) يجدر بمن يريد استيعابهم أن يأتيهم من هذا الباب فهم أهل الصنعة و عندهم طاقة و استعداد لا يملكه غيرهم من أهل الدعة و الراحة. و يمكن إفادتهم و الاستفادة منهم بتحميلهم بعض المسئوليات التنظيمية و العملية في النشاطات الاجتماعية و الدينية كالاحتفالات و مواكب العزاء و مهرجانات الزواج الجماعي و نشاطات الجمعيات الخيرية.
لا أزعم أن هذه المقترحات تمثل حلولاً أكيدة و صفات سحرية لظاهرة ليست وليدة يومنا و لا أمسنا القريب بل لعلها ملازمة لكل المجتمعات في كل العصور, و متى ما وجد مجتمع وجدت معه ملامح فئاته و تقسيماته الطبيعية , فبعض المجتمع ثري و بعضه فقير و قسم عالم و قسم متعلم و قسم من أهل الصناعة و قسم من أهل التجارة.. إلخ. و لكن من الفئات والأقسام الطبيعية أيضاً في المجتمع... الفئة التي تهتم بإصلاح ما فسد منه و تهتم بشؤون أجزائه المريضة و إلا أصبح مجتمعاً فاقداً لجهاز المناعة الذي لا يستغني عنه أي مجتمع صحي سوي. و لسائل أن يسأل: هل يوجد مجتمع يخلو من الآفات الاجتماعية و الأمراض الإنسانية؟ أو هل يمكن أصلاً أن يحصل مثل ذلك المجتمع؟
و الجواب: قصة من كتاب تواريخ الأنبياء للعلامة السيد حسن لواساني, تتحدث القصة عن أخبار ذي القرنين عندما نزل بأمة مقسطة عادلة , يقسمون بالسوية و يحكمون بالعدل و كلهم يتواسون و يتراحمون , أحوالهم واحدة , وكلمتهم متفقة, وقلوبهم مؤتلفة , وطريقتهم مستقيمة, وسيرتهم جميلة, قبور موتاهم في أفنيتهم أمام دورهم , ليس لبيوتهم أبواب , و ليس عليهم أمراء, و لا بينهم قضاة و لا أغنياء و لا ملوك و لا أشراف, لا يتفاوتون ولا يتفاضلون ولا يختلفون ولا يتنازعون و لا يتسابون و لايتخاصمون ولا يتقاتلون و لا تصيبهم الآفات إلى غير ذلك من الخصال الحميدة والصفات الحسنة الكثيرة.
فدهش ذو القرنين منهم حيرة وامتلأ عجباً و إعجاباً , و سألهم عن ذلك قائلاً ( أيها القوم أخبروني خبركم فإني قد درت الأرض كلها شرقها و غربها وبرها و بحرها سهلها وجبلها نورها و ظلمتها فلم أر مثلكم ومثل ما أنتم عليه من الصفات و الأحوال)
فقالوا: أما إننا جعلنا قبور موتانا على أبواب دورنا و في أفنيتنا فحتى لا ننسى الموت و لا يخرج ذكره من قلوبنا, و أما أن بيوتنا ليس عليها أبواب فلأنه ليس فينا لص ولا خائن. وكل منا أمين. و أما أنه ليس علينا أمراء فلأنا لا نتظالم و ليس علينا حكام لأنا لا نتخاصم, و ليس فينا ملوك لأنا لا نتكاثر. و ليس فينا أشراف, لأنا لا نتنافس. وليس فينا تفاضل و لا تفاوت لأنا متواسون متراحمون, و لانتنازع و لا نتخاصم لألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا و لانتساب و لانتقاتل لأنا ألنّا طبائعنا بالعزم و سسنا أنفسنا بالحلم و أما أن كلمتنا واحدة و طريقنا مستقيمة فلأنا لا نتكاذب ولا نتخادع و لا يغتاب بعضنا بعضاً, وليس فينا فقير ولا مسكين لأنا نقتسم بالسوية, وليس فينا فظ و لا غليظ لما فينا من التذلل و التواضع, هذا و قد جعلنا الله تعالى أطول الناس أعماراً لأنا نتعاطى الحق و نحكم بالعدل, و لا يصيبنا قحط ولا مصيبة لأنا لا نغفل عن الاستغفار و إنا لا نحزن لأنا وطنا أنفسنا على البلاء و حرصنا عليه فعزينا أنفسنا, و أننا لا تصيبنا الآفات لأنا لا نتوكل على غير الله و لا نستمطر بالأنواء و النجوم, و هكذا وجدنا آباءنا يفعلون.
و هذه الأمة الصالحة و القوم المؤمنين هم الذين أخرج الله من أصلابهم الأمة المهتدية من قوم موسى الذين مدحهم في كتابه الكريم بقوله ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (159) سورة الأعراف.
5 / شعبان / 1429هـ