عشق الكمال
إنَّ كل نفس تعيش على هذه البسيطة لابد لها من العمل بالأخلاق لتهذيبها و ترويضها؛ لكي يتسنى لها أن تسير على خطى الغاية التي من أجلها بعث الله الأنبياء والرسل (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
فكل واحد منا يتوق إلى أن يبلغ الكمال في العلم والجسم و في الصفات الجميلة, ومطلب الكمال مطلب فطري في الإنسان ولا أحد يحب النقص ولا الكمال الناقص, لأن الكمال الناقص محكوم بالعدم والفطرة تنفر من العدم, وحتى الذين يتصفون بالصفات الذميمة وأصبحت هذه الصفات راسخة في نفوسهم واصلين بقناعة بأنها الكمال بالنسبة لهم إنما هم في خطأ والذي أوقعهم في هذا الخطأ الحجب النورانية والظلمانية ومتى ما حاول الإنسان جاهداً في رفع هذه الحجب عن طريق تهذيب النفس (الأخلاق العملية) هُدي السبيل الصحيح (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...)1.
ولا يكفي أن يستمع أو يقرأ المرء المفاهيم الأخلاقية ويستحسنها ظاناً منه أنه قد حصل عليها إنما ملاك الحصول على الأخلاق الفاضلة بدوام الممارسة لها حتى تصبح بمرور الزمن ملكة راسخة وصفة ثابتة في النفس, يزدان بها الإنسان, فمتى ما بدأ الإنسان المسير بعزم وإرادة وإخلاص وحدد الغاية النبيلة (الكمال المطلق) الذي يريد الوصول إليه يصل بعون من الله وتوفيقه, حيث لكل سير وصول (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ )2.
- الفطرة السليمة منبع الكمال:
لقد فطر الله الناس على حب الكمال وتوق الوصول إليه وكره النقص و النفور منه، هذا متى ما كانت الفطرة سليمة و صافية من القاذورات و الأدران و الحجب التي يصنعها الإنسان لفطرته (وحجاب الفطرة أو احتجابها يبدأ من خلال عدم الاستجابة الصحيحة أو اللازمة لنداءاتها، إن الفطرة تقول لك هذا العمل خبيث وهذا الشيء قبيح ، فإذا فعلته أو تناولته ستخدش فطرتك و تكدرها، وإذا تماديت في مثل هذه الأعمال وابتعدت شيئاً فشيئاً عن الأمور الكمالية و الجمالية سيصل بك الأمر إلى مرحلة تفقد فيها صفاء فطرتك، وربما إلى الأبد3
وهذا هو سر توجه بعض الناس إلى النقص و القبائح و تركهم للكمالات المعنوية الجمالية، فعندما يحجب الإنسان فطرته السليمة و يكدر صفاءها و نقاءها لن تتمكن من إرسال الإشارات الإرشادية في أعماق نفسه نحو الوعي بوجود الكمالات المعنوية و التوجه إليها على عكس إذا ما كانت الفطرة سليمة و صافية ( فالفطرة الصافية المودعة في أعماق كل إنسان عبارة عن ذلك التوجه الدائم والانجذاب المستمر نحو الكمال المطلق اللامتناهي، ودورها إرسال الإشارات بشكلٍ مستمر إلى وعي الإنسان بوجود الكمال هنا و هناك ، كما إنها لا تتوقف عن طلب المطلق من كل كمال و جمال ، وإن أي عشق أو توجه إلى أي كمال في هذا العالم منشؤه هو هذه الفطرة )4
- الكمال المطلق و مطلق الكمال:
إن أي إنسان يتوجه نحو السير و السلوك( العرفان العملي) تراه دائماً يكون في حالة تعالٍ و ترقٍ مستمر في مدارج الكمال ، وتشكل هذه الحالة أساساً رئيسياً للوصول إلى الكمال المطلق، فكلما وصل إلى مرحلة أو إلى مقامٍ من المقامات الكمالية المعنوية تاق إلى المرتبة التي تعلوها وهكذا، حتى يصل إلى الكمال المطلق و مطلق الكمال،وهذا هو مطلب ومنى العاشقين.
ويتجلى دور الفطرة الطاهرة في هذا المعنى السامي في عدم الوقوف إلى حدٍ تكامليٍّ معينٍ لان الوقوف هلاك و التراجع هلاك كما يعبر العرفاء، وذلك في خصوص قضية السير و السلوك نحو الكمال المطلق و مطلق الكمال ، و لا تزال هذه الفطرة تلح و تصر على أن ما بلغته من كمال ليس كافياً وليس هو المطلوب، و إنما المطلوب هو الوصول إلى الكمال المطلق في مطلق الكمالات الجلاليَّة والجمالية المعنوية.
وهذا هو السر الخفي في سعي الإنسان بما هو إنسان- الذي يسعى في تحقيق إنسانيته- نحو الكمال المطلق و مطلق الكمال.
اسأل الله لي ولكم التوفيق في السير و السلوك إلى الله و بلوغ أعلى المراتب الكمالية المعنوية،فإن لكل سير وصول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين