كلمة سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي الحسيني المدرسي (دام ظله)
في افتتاح مؤتمر العودة إلى القرآن في دورته العاشرة، 28 رجب 1427هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا وحبيبنا وقائد مسيرتنا المبعوث بأكمل الرسالات المصطفى محمد وعلى أهل بيته الهداة الميامين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم أعوذ بالله من شر الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم،﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [28] ِكتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ آمنا بالله صدق الله العلي العظيم
أبارك لكم أيها الأخوة الكرام هذا المؤتمر، الذي يعد بحق باكورة المؤتمرات الإسلامية، التي تتناول موضوع القرآن الكريم بصفته موضوعا أساسيا ومحوريا في الحركة الحضارية،التي بدأتها الأمة الإسلامية في القرنين الأخيرين.
كما أبارك لكم ميلاد النور، ومبعث الرسول هذا اليوم الأغر الذي جاء عنه في حديث مأثور للإمام الصادق سلام الله عليه أنه أشرف وأكمل الأعياد.
أخوتي في الله... القرآن الكريم كتاب حي، من حي قيوم إلى القلوب التي تتمتع بالحياة، ومن قرأ القرآن بهذه الصفة فإن قلبه سوف يحيا بحياة القرآن، ليس القرآن كأي كتاب آخر أنه نور وبصائر وهدى وموعظة إنه يتحدث إلى الإنسان بصورة مباشرة. وفي يوم القيامة يخترق الصفوف شاب بهي، جميل جذاب، فيتعجب الناس من هندامه، ومن جماله وبهائه، فيخترق الصفوف حتى يصل إلى صفوف المؤمنين فيتقدمها، ثم يصل إلى صفوف الصديقين فيتقدمها، وهكذا يتجاوز صفوف الأوصياء والأنبياء، حتى يتوسط الجمع ،وهنالك يتساءل الناس عن هذا الشاب الوسيم! من هذا الخلق العظيم الذي اخترق الصفوف كلها وسبقها جميعا! فيأتيه الخطاب من رب العزة عرف نفسك، فإذا بالقرآن الكريم يقول: (أنا القرآن، أنا كتاب الله، أنا الشافع المشفع، وأنا الماحل المصدق، من جعلني أمامه قدته إلى الجنة ومن جعلني خلفه سقته إلى النار).
إن هذا الحديث الشريف يبين لنا ما نستشفه ونستنبطه من القرآن الكريم ، بأن هذا الكتاب ليس حروفا ميتة، وإنما هو حياة تتجلى في هذه الحروف، إنه حبل الله المتين، إنه حديث الرب الحي القيوم الذي لا يموت إلى ذلك العبد المؤمن الصادق المصدق الذي قلبه فيه الحياة، ولذلك فإن القرآن يلتقط المؤمنين يوم القيامة فيشفع لهم ،ولا يمكن أن يفعل ذلك لو كان ميتا، كلا القرآن حي، أيها المؤمن.. فإنه يتحدث معك حين تقرأه إذا فتحت قلبك، ويتحدث معك وتتحدث معه حديثا مباشرا. فإذا بقلبك يلتقي بنور ربك، لو أننا قرأنا القرآن الكريم بهذه الصفة فإنه سوف يهدينا إلى ما يمكن أن ينفعنا في حياتنا الدنيا.
القرآن كتاب حياة
أيها الأخوة الكرام.. الدنيا ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات متراكمة، وفي الدنيا من الإبهام أكثر ما فيها من الوضوح، فليس في الدنيا شفافية، لأنها دار امتحان، ودار فتنة، طبيعتها الغموض، طبيعتها لهو ولعب وتكاثر في الأموال والأولاد، إنها دار الغرور، إنها دار الخداع، لذلك تجد نفسك في كل يوم في موجة متراكمة من الإبهامات والأسئلة.
هذه الظلمات لا يخترقها إلا مصباح الهدى الذي أنزله الرب عبر كتابه -القرآن الكريم-، لذلك نحن ينبغي أن نجعل من القرآن ذلك المصباح المنير الذي نستطيع أن نستشف به حياتنا، ونعرف كيف نصنع، ذلك النور الذي نمشي به بين الناس، ذلك النور الذي نخترق به ظلمات الدنيا المحيطة بنا كيف نفعل ذلك؟.
كيف نجعل القرآن محور حياتنا؟
إن محور مؤتمركم هذا والذي يدور حول دور القرآن الكريم في حياة الإنسان المؤمن وكيفية استنطاق القرآن، لما فيه خلاصنا من أزماتنا، ومشاكلنا، وظروفنا.
إن هذا المحور الأساسي لهذا المؤتمر يعتبر أساس حضارة اليوم، وأساس حركتنا. والأسئلة التي تثار اليوم في حياتنا، فلو استطعنا في هذا المؤتمر، وفي أمثاله، أن نضع النقاط على الحروف، وأن نستنطق القرآن، أو أن نعرف منهجية استنطاق القرآن، والاستلهام من القرآن الكريم لما في حياتنا، فإننا سوف نفوز فوزاً عظيما إن شاء الله.
ولذلك إنني أتحدث إليكم في لحظات حول كيفية جعل القرآن محور حركتنا الحضارية، وكيفية استنطاق آيات القرآن لمعرفة ما يمكن أن ينفعنا في حياتنا الدنيا، كيف نحول القرآن إلى مصباح هدى وسفينة نجاة، كيف نحوله إلى ذلك الحبل المتين الذي نتمسك به في هذه الأمواج المتراكمة من الظلمات.
الجواب على ذلك يأتي عبر النقاط التالية:
أولا: إن علينا أيها الأخوة.. أن نأنس بالقرآن الكريم بتلاوة آياته، وأن نعيش في أجواءه وفي رحابه، فبعض الناس لا يقرؤن القرآن إلا في مناسبات محدودة، بينما أمرنا أن نقرأ منه ما يتيسر لنا، أي أن نملأ فراغات حياتنا بتلاوة آيات القرآن، بالليل بالنهار، قبل الصلاة بعد الصلاة، قبل النوم بعد النوم، وبالتالي نضع القرآن في موضعا أساسيا يليق بحياتنا، حتى نستنير به، يجب أن تكون تلاوة ختمة كاملة من القرآن كل شهر، منهج حياة أكثرنا، فهناك كان من المؤمنين من يقرؤون القرآن كل عشرة أيام، وبعضهم كل ثلاثة أيام، وبعضهم كان يختم القرآن كل ليلة، وهناك كثير من أصحاب النبي وأصحاب الأئمة (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام) كانوا يختمون القرآن في ليلة، كحبيب بن مظاهر مثلا، -حسب شهادة الإمام الحسين في حقه-.
إن ختمة القرآن في ليلة ربما تكون بعيدة عن أفكارنا، ولكن ختمة القرآن في كل شهر هي ضرورية، ثم التدبر في آياته والتأمل في كلمات القرآن، ففيها بطون، وأغوار، وتخوم، وأبعاد، ومعاريض.
يجب أن لا نقتنع بمعرفة الظاهر، فإن ظاهر القرآن حلو، ولكن باطنه عميق، باطنه علم وحكمة، باطنه نور وضياء.
ثانيا: ينبغي أن نصلح بالقرآن أنفسنا ونزكيها، لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل القرآن على النبي جعل من أهداف القرآن الكريم الأساسية: هي تزكية النفس، فقال سبحانه وتعالى ﴿هو الذي بعث في الأميين رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ إذاً القرآن الكريم تزكية للنفس، وأهم شيء في معرفة الحياة - أخوتي المؤمنين- هو أن ندرس الحياة المحيطة بنا، وحوادثها، ووقائعها، وما يجري فيها، ندرسها بلا حجب، أي بلا عصبية، ولا تكبر، ولا موقف مسبق.
إنك اليوم حينما تتصفح محطات التلفاز من محطة إلى أخرى، تجد أن حادثة واحدة تفسرها كل محطة حسب ذوقها، ورأيها، وخلفيتها، وربما يكون تفسيرها تفسيرا خاطئا، نحن كذلك حينما نواجه حادثة من الحوادث أو واقعة من الوقائع، يجب أن نواجهها بلا حجاب. فإذا قرأنا القرآن ونحن نحمل حجب التكبر، والتعصب، والحمية والآراء المسبقة، لن نصل إلى الحقيقة.
إذا فالقرآن الكريم كما نحن نعرف يعالج هذه الخلفية العصبية في الإنسان، ويجعله يترفع ويتعالى عليها، ويدرس الحقائق بموضوعية.
ثالثاً: إن كثير من المعارف والعلوم تصلنا عبر السماع، والقرآن الكريم يهدينا إلى منهجية للاستماع بعيدة عن الآراء الخاطئة، تؤدي إلى الحقائق الموضوعية، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة الزمر: ﴿ َالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر : 17] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾
رابعاً: أن نعرف أننا نستطيع أن نقول ما نشاء ونفعل ما نشاء ونحن في هذه الدنيا، ولكن يوم القيامة، وهو يوم الحساب الدقيق، لا يمكن أن يفلت الإنسان من العقاب أمام ما قاله، وما بينه، وما اعتقد به، من هنا لابد أن نحكم بالحق -أي أن يكون حكمنا على الأفراد وعلى القضايا وفي المسائل - حكما نابعا من العقل والحكمة والصدق، وليس نابعا من الهوى وما أشبه. فحينما استخلف الله سبحانه وتعالى النبي داود في الأرض قال: ﴿ يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾، فبعض الناس يحكم على الآخرين ويتخذ مواقف بلا دليل أو توجيه أو عذر، يكذب هذا ويصدق بذاك، ويتخذ مواقف مرتجلة، وهذا ما يمنعنا القرآن عنه والسبب في ذلك أن خلق السماوات والأرض دقيق متين، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئا عبثا وهو القائل: [ َمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [27]وأخيراً: يجب أن لا نحكم في الأمور بما لدينا من المعلومات والمعارف والأفكار والآراء، وإنما نجمع الآراء كلها، وربنا سبحانه وتعالى حينما مدح المؤمنين جعل من أبرز صفاتهم أن أمرهم شورى بينهم، حينما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ والأمر يعني ما يتصل بأمور الحياة الدنيا،لأن في أمور الحياة الدنيا كل إنسان يرى الأمور من زاويته، وموقعه، ومصلحته، فإذا اجتمعت الزوايا والمصالح والآراء والعقول والخبراء، وتراكمت التجارب آنئذ نصل إلى الحقيقة، استمعوا إلى رب العزة حينما يقول في سورة الشورى: ﴿و َالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الشورى : 38]﴾.
خاتمة التوصيات
إذاً هذه النقاط التي لخصتها لكم:
أولا: قراءة القرآن والمزيد من تلاوته.
ثانيا: الاستفادة من منهجية وخلقية التفكير في القرآن الحكيم، والمنطق الإسلامي الذي يبجله القرآن الكريم.
ثالثا: طرح حجب العصبية والأفكار المسبقة، ومن ثم الاستماع إلى القول وإتباع أحسنه دون استماع القول كله بما فيه من غث وسمين,
رابعا: الحكم بالحق لا بالهوى.
وأخيراً: المشورة والتماس الآراء الأخرى وجمع الأفكار، والأخذ بإجماع الرأي.
بذلك نستطيع أن نهتدي بالقرآن في حياتنا، أي أن نجعل القرآن مصباح حياتنا الدنيا، فنحن في الدنيا بحاجة إلى القرآن لنعرف الحق، ولنكون حكماء، نعمل بما هو واجبنا ونعمل بما فيه خيرنا وبما فيه خير الآخرين.
أخوتي.. نحن اليوم في عصر الإعلامية في عصر الانترنيت والفضائيات والتضليل العالمي للإنسان، أي الثقافة العالمية التي تضغط على كل إنسان -حتى لو كان في مخدعه- في اتجاه معين.
نحن بحاجة إلى أن نتسلح بالقرآن الكريم، بهذا المصباح النير، بهذا الهدى، بهذا الحبل، وآنئذ نستطيع أن نواجه هذه الأمواج المترامية التي تلاحقنا، وتحاول أن تبعدنا عن الصراط المستقيم.
أسأل الله سبحانه وتعالى لكم المزيد من التوفيق والسداد. وأن يجعل هذا المؤتمر مباركا وميمونا، وأن يجعلنا جميعا إن شاء الله نهتدي بهدى القرآن، ونتبصر ببصائره في حياتنا الدنيا وأن يجعل الله لنا القرآن شفيعا يوم الميعاد. وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تابعوا فعاليات مؤتمر العوة الى القران الكريم في دورته العاشر على