طوائف الناصحين
وسائل كثيرة يمكن بواسطتها أن نفهم القرآن الحكيم , ولعل من أهم هذه الوسائل محاولة نظم جملة من الآيات أو نظم سورة بأكملها في سياق واحد يسهل الحصول بعد ذلك على خلاصة السورة القرآنية وبالتالي عبرتها .
فمثلا سورة البقرة التي تعد من أطول السور القرآنية قد يكون خلاصتها بالاستفادة أيضا من اسمها وحادثتها التأكيد على مرض خطير يصيب الأمم والإنسان على وجه خاص وهو مرض التبرير والتعليل من أجل التملص والتحلل من المسئوليات الملقاة على عاتق الإنسان .
هذه المقدمة أود أن نتذكرها جميعا بعد أن نتحدث عن مفهوم من المفاهيم الدينية السامية ألا وهو مفهوم النصيحة , الذي هو عبارة عن علاقة حيوية بين أبناء المجتمع يدل على حالة من الديناميكية والفاعلية المتبادلة ويساهم في سد الخلل والفجوات التي تبرز بين آونة وأخرى .
لكن هذه النصيحة التي حببت الشريعة في نصوصها عليها , تنقسم إلى قسمين , صادقة وأخرى موهومة , بالنسبة للموهومة منها يذكر الله تعالى لنا مثال نصيحة إبليس لأبينا آدم حين قال له كما يذكره القرآن الحكيم ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾الأعراف21 هنا إبليس اختار موضوعا حساسا يتصل بالخلود وأقسم على آدم أنه ناصح أمين , وسرد مع هذا النصح جملة من التأكيدات تشير إليها الآية بنحو لغوي , هذه ليست نصيحة وإن غلفت بهذا العنوان الإنساني لأن ظاهرها فيه رحمة وباطنها فيه العذاب, أما القسم الثاني من النصيحة فهو النصيحة الصادقة والإيجابية وهي النابعة عن حرص وصدق خاص , ويذكر لنا القرآن أيضا مثالا على ذلك عن الكليم موسى لما جاء إليه ذلك الرجل ينصحه ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾القصص20.
ذكرنا هذه المقدمة لأن الامام الحسين عليه السلام جاء إليه الكثير من الناصحين يسدون له النصيحة وقد انقسمت هذه النصيحة إلى أقسام , وقبل أن أشرحها أود أن أشير إلى أن حركة الإمام الحسين كانت تطورا وانعطافة في تاريخ المسلمين , ولأنه كذلك فهو عمل جبار ليس بالضرورة أن الكل قادر على أن يتخذ فيه قرارا , لتداخله من جهة مع فهم النص الديني وروح الإسلام من جهة ولفهم الواقع وحاجته من جهة أخرى , وكذلك من يتصدى له ثالثة وغيرها من التداخلات .
ولأن الموضوع إشكالي عند بعض من جهة ومصلحي من جهة أخرى , يمكن أن نقسم النصائح التي أسديت إليه عليه السلام إلى ثلاثة أقسام :
1- الناصحون المشفقون :
وقد انطلقت هذه الطائفة من حب عميق للإمام الحسين , ومن رغبة صادقة في الحفاظ على حياته , ويدعم هؤلاء قراءتهم لتاريخ العراق مع الإمام علي والإمام الحسن عليهما السلام , وهذا لا يعني أن الإمام لم يقرأ تاريخ العراق , وإنما كان يوازن بين جملة من العوامل يمكن تفصيلها في مرات قادمة . ويأتي في مقدمة هؤلاء الناصحين أخوه محمد بن الحنفية , ومنهم الصحابي أبو سعيد الخدري ، فقال : يا أبا عبد الله ، إني لكم ناصح ، وإني عليكم مشفق ، وقد بلغني أنه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج ، فإني سمعت أباك ، يقول بالكوفة : والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملوني وأبغضوني ، وما بلوت منهم وفاء ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب ، والله ما لهم ثبات ، ولا عزم أمر ، ولا صبر على سيف . *وقال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة : أين تريد يا بن فاطمة ؟ إني كاره لوجهك هذا ، تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ، حتى تركهم سخطة وملة لهم . أذكرك الله أن تغرر بنفسك . وقال أبو واقد الليثي : بلغني خروج حسين ، فأدركته بملل ، فناشدته الله أن لا يخرج ، فإنه يخرج في غير وجه خروج ، إنما يقتل نفسه وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنه قال : لا أرجع . * وجاء إليه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال : إن الرحم تصارني - أي تدعوني - عليك ، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك ؟ قال عليه السلام : يا أبا بكر : ما أنت ممن يستغش ولايتهم ، فقل . قال : قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وبأخيك ، وأنت تريد أن تسير إليهم ، وهم عبيد الدنيا ، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك ، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصر . فأذكرك الله في نفسك . يبدو أنه كان مخلصا في نصحه . ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام أن قال : جزاك الله - يا بن عم - خيرا ، فقد اجتهدت رأيك ومهما يقض الله من أمر يكن .
2- الناصحون المدلسون :
الطائفة الثانية هي تلك التي كانت لها مآرب خاصة من نصيحة الحسين عليه السلام , وبالتالي فهي تنطلق في هذه النصيحة من مصالح معينة لعل أهمها الوقوف أمام تيار حركة الإمام الحسين , وقد توضحت في جملة من المواقف , منها مثلا على سبيل المثال * وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن ، تعظم عليه ما يريد أن يصنع ، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة ! ! وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه ، وتخبره ، وتقول : أشهد لحدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يقتل حسين بأرض بابل . كيف يمكن لنا تفسير هذا اللحن من النصيحة , إلا بالقول أنها نصيحة مفتعلة ومدروسة أيضا , ولذا كان جواب الإمام لها إلزامها بما روت ، فلما قرأ كتابها قال : فلا بد لي - إذن - من مصرعي ، ومضى عليه السلام . * وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص : إني أسأل الله أن يلهمك رشدك ، وأن يصرفك عما يرديك ، بلغني أنك قد اعتزمت على الشخوص إلى العراق ، فإني أعيذك بالله من الشقاق . فإن كنت خائفا فأقبل إلي ، فلك عندي الأمان والبر والصلة . يبدو أن عمروا كان يريد إنها حركة الإمام الحسين بصورة سطحية بحيث يعطى الإمام الأمان حتى ينتهي الأمر. وقد كتب إليه الحسين عليه السلام جوابا مناسبا هذا نصه : إن كنت أردت بكتابك إلي بري وصلتي ، فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة . وإنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين وخير الأمان أمان ا لله ، ولم يؤمن الله من لم يخفه في الدنيا ، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمان الآخرة عنده . * عبد الله بن الزبير ولا شك أن هذه النصيحة وراءها ما وراءها من المصالح الخاصة للاستفراد بالساحة والتخلص من شخص كانت القلوب تتطلع إليه, ويكفي تاريخه وتاريخ أبيه مع صدر الإسلام وفي شعب أبي طالب وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام - كما في الرواية فقال له : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي - يعني مكة - متنبئا بتسببه في انتهاك حرمة البيت والحرم ، عندما يعلن طغيانه في داخل مكة ويستولي عليها ، مما يفتح يد جيش الشام لانتهاك حرمتها ، بل رميهم للكعبة وهدمها .
3- الناصحون المشتبهون :
وهذه الطائفة حاولت النصح بيد أنها كانت منطلقة من إشكالات يعلم الحسين عليه السلام بسبب علمه بالنصوص الدينية يعلم بطلانها , ومنهم عبد الله بن عمر فقد جاء إلى الحسين عليه السلام ينصحه بعدم الخروج إلى العراق ، إن أهل العراق قوم مناكير ، وقد قتلوا أباك وضربوا أخاك وفعلوا ، وفعلوا . ولما أبى الإمام - بما سيأتي نقله - قال ابن عمر : أستودعك الله من قتيل ، ولكن الإمام قال له أيضا "هذه كتبهم وبيعتهم " لكن الفهم الخاطئ للبيعة كمنا ينقل ابن عمر " من بات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " حتى يبايع الحجاج تاليا .
* وكتب إليه المسور بن مخرمة :- إياك أن تغتر بكتب أهل العراق . . . إياك أن تبرح الحرم ، فإنهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك ، فتخرج في قوة وعدة ويبدو أن المسور كان يعرف السبب الأساسي لتوجه الحسين عليه السلام وهذا يدل على مزيد الارتباط والتداخل مع قضية الحسين عليه السلام ، لكنه - لجهله بمقام إمامة الحسين - يتصدى بهذه اللهجة لتحذيره ، ولعدم وجود سوء نية عنده ، يذكر خيانة أهل العراق ، ويقترح على الحسين عليه السلام مخرجا ، وهو أن يترك العراقيين ليقدموا بأنفسهم على الخروج إلى الحسين عليه السلام ، وهذه نصيحة مشفق ، متفهم لجوانب من الحقيقة ، وإن خفي عليه لبها وجوهرها . ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان لينا في جوابه : فجزاه خيرا ، وقال : أستخير الله في ذلك .
تجاه هذه النصيحة , نشير إلى أمور :
1- علم الإمام الحسين له أثر في الأمر , ومع ذلك فقد فتح باب الحوار للجميع لتبيان الحقيقة في هذه الحركة الحسينية .
2- التكليف الشرعي وعلمه عليه السلام , فما دام انه منطلق من النص الشرعي الصحيح ومنزلته الخاصة , وهنا أود القول أن عدم القدرة لا يبرر النصح في الاتجاه المعاكس , إذ لعله يكون تبريرا لا نصيحة .