الوقف الإسلامي في الكويت
نموذج مشرق، وإنجازات رائدة، ومستقبل واعد
بمعية جمع من أفاضل العلماء والكفاءات الرائدة في القطيف والأحساء؛ حضرتُ ليومين متتابعين (ملتقى كبار الموقِفين في الكويت)، الذي أقامته وزارة الأوقاف الكويتية برعاية وزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ يعقوب بن عبد المحسن الصانع، وحضور جمع من سفراء الدول الإسلامية؛ لتكريم مجموعة من كبار الموقِفين هناك، تمثل الدفعة الأولى في مشروع التكريم الممتدّ، والذي انعقد يومي الأربعاء والخميس 23ـ 24/ ربيع الأول/ 1436هـ، الموافق لـ 14ـ 15/ يناير/ 2015م.
ومن خلال ما تمّ طرحه في (الملتقى)، وما تمّ تداوله في الحوارات المنعقدة على هامشه؛ تبيّنت مجموعة من السمات الرائدة للوقف الكويتي، ومنها:
- 1ـ كثافة الوقف:
لعلّ معيار تحديد (الكثافة) أو (الانحسار) يتمّ بمقارنة عدد الأوقاف الماثلة على الأرض بعدد السكان في الدولة، فحيث يتوفر عدد سكاني واسع، وتقلّ الأوقاف، نستطيع أن نقول: إنّ الوقف هناك يعاني ضموراً وتقلصاً وانكماشاً وانحساراً، وحيث يقلّ عدد السكان، وتكثر الأوقاف، نستطيع أن نقول: إنّ هناك كثافة وقفية راتعة في ذاك البلد.
وفي دولة الكويت التي قُدّر عدد سكانها في ديسمبر 2011م بـ (3,470,000) نسمة، منهم (1,190,000) كويتي، و(2,280,000) غير كويتي، وبنسبة 75% من المواطنين السنة، و25% من المواطنين الشيعة(1)؛ نجدها تزدهر بأوقاف كثيرة، نستطيع معها القول بكثافة الأوقاف هناك.
فمع هذا العدد القليل من السكان المستقرّ في مساحة صغيرة تبلغ 17,818 كيلو متراً مربعاً من الأرض(2)، تزدان الكويت بأوقاف كثيرة وواسعة.
ولو مددنا يد العون إلى لغة الأرقام والإحصاء؛ لتدعم أو تدحض هذه المقولة والادعاء، فقد نقف على الأنهار الوقفية المترعة التالية:
ففي الفترة ما بين (1887ـ 1938م) كان في الكويت نحو 50 مسجداً فقط(3)، وارتفع فيما بعد عام 1961 إلى 1227 مسجداً(4).
وفي غضون سنتين فقط بين (1910ـ 1912م) أوقف الناس عبر (مشروع الجمعية الخيرية) وحدها 134 وقفاً(5).
إلى حدّ أنّ في الكويت ما بين 800 إلى 1000 شخص مصنّفين في لائحة (كبار الموقِفين)، كما أُعلن في (ملتقى كبار الموقِفين)، والذي تمّ فيه تكريم 26 منهم كدفعة أولى، تليها دفعات لاحقة لتكريم الآخرين.
وفي عام 2006م أشار منصور الهاجري في صحيفة (الرأي العام) إلى وجود 110 حسينية رجالية في الكويت، و31 حسينية نسائية. بينما جاء في صحيفة (الوطن) تحت عنوان (عاشوراء في الكويت) أنّ في الكويت أكثر من 500 حسينية رجالية ونسائية(6).
وحسب موقع الموسوعة الحرّة (ويكيبيديا) فإنّ مدينة الرُّميثية ـ وحدها ـ تزخر بـ 14 مسجداً، وأكثر من 70 حسينية(7).
- 2ـ شمولية الوقف:
من الملامح الرائعة في الوقف الكويتي كونُه مظلة عامة لأبناء مجتمعه، بعيداً عن الاختلاف الاجتهادي الذي يمكن أن يتمّ في دوائره التفصيلية وانتماءاته العقدية والفقهية والفكرية.
فهو وقف (إسلامي) بسعة معنى (الإسلام).
ومعنى كونه (إسلامياً): أن يمدّ جناحه على جميع الأطراف التي تستظلّ بمظلة الإسلام: سنية كانت أو شيعية، دون أن يقبل أن يكون معبّراً عن فئة واحدة فقط من فئات المجتمع والدولة، وتهميش فئة أخرى؛ الأمر الذي يعني إخلاله بطبيعة الكيان المؤسسي الشامل لجميع أبناء مجتمعه ضمن تصورات الدين الحنيف القائمة على قبول التعددية والتنوع وشمولية التمثيل وحرية الممارسة، وتصورات الدولة المدنية الحديثة القائمة على أساس المواطنة، وتساوي الجميع في الفرص والحقوق والواجبات.
وأكثر من ذلك؛ فقد أقرّ دستور الكويت حرية الاعتقاد، وحماية الدولة لحرية القيام بشعائر الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، وكفّل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية برعاية الدور العبادية والأوقاف للأديان الثلاثة معاً(8)؛ مما يحكي حالة من الحيادية الدينية للدولة، وعدم تبنّيها لنظرة وممارسة إقصائية إلغائية لشيء من مكونات المجتمع.
واحدة من مشكلات كثير من الدول الإسلامية أنّها تقصر (الوقف الإسلامي) على طرف من أطراف التنوع العقدي ـ الفقهي ـ الفكري الإسلامي، ومن ثمّ فهي ـ حقيقة ـ أوقاف فئوية مذهبية، تعطي راية الإسلام لفئة اجتماعية، وعُنونت بعنوان (الإسلام)، وقُصر عليها لباسه الواسع، وفي الوقت الذي تحسب نفسها على انتماء عقدي ـ فقهي ـ فكري معيّن تُصنّف الفئات الاجتماعية الأخرى من أبناء وطنها بأنّها خارج الإطار الإسلامي، وتنزع عنها رداء الإسلام.
هذا التقسيم والتصنيف، واحتكار الإسلام لطرف، وتكفير وتبديع وتخوين وتفسيق الطرف الآخر، والحكم عليه بأنّه كافر ومبتدع ومشرك وخائن وفاسق وضالّ ومن أهل النار، إن لم يحكه القول واللفظ والعبارة والصياغة الرسمية للقانون ومواده وبنوده، حكاه الفعل والتطبيق والممارسة!!
والأمرّ من ذلك حين تصدح مؤسسات الدولة بكون الوقف الإسلامي فئوياً، وتُعلن ـ جهراً وصراحة ـ أنّ فئة أخرى من أبناء مجتمعها (كافرة، وغير مسلمة)، وتُعلن ذلك في وسائل إعلامها الرسمية، وعلى لسان علمائها ومؤسستها الدينية، وتسطّر ذلك في الفتاوى والكتب والمناهج الدراسية الرسمية، وفي خطب الجوامع وغيرها..، حينها نكون في مواجهة إقصاء رسمي ممنهج!!
وفي تعبير ماقت لغلواء الطائفية، وداعم للتسامح والإخاء الديني، ومن لدن الماضي التليد، أسهم بعض الأمراء الكويتيين في دعم الوقف الشيعي والتبرّع له، كما في بناء الحسينية الخزعلية في الكويت، الذي أسهم فيه بفاعلية وحياد أمراء وأميرات الكويت، كالشيخ مبارك الصباح الذي تبرّع بمنزله المجاور لها، بالإضافة إلى خشب لتسقيفها، كما تبرّعت الشيخة موضي دعيج الصباح بمنزلها المجاور ـ أيضاً ـ، فضلاً عن الشيخ صباح الناصر الصباح الذي تبرّع لها بـ 30,000 روبية، والشيخ عبد الله السالم الصباح (أمير الكويت الأسبق) الذي تبرع لها بـ 50,000 روبية(9).
- 3ـ تنوع أغراض الوقف:
في كثير من بقاع العالم الإسلامي تمثّل الصيغ التقليدية السائدة المشهورة للوقف الطبيعة الحصرية لأغراض الوقف وأهدافه، والتي لا تكاد تخرج ـ غالباً ـ عن دائرة المسجد، والحسينية، وكفالة الأيتام، ومساعدة الفقراء والمساكين، وتزويج العزّاب، ودعم طلبة العلم، وتخريج الدعاة، ونشر المصحف الشريف والكتب الدينية، وإقامة المناسبات الدينية، والإطعام فيها، وأغراض قليلة أخرى..
ولعلّنا ـ هنا ـ بحرصنا على كلمات مثل: (في كثير) و(لا تكاد) و(غالباً) نشدّد على (نسبية الفكرة)، وعدم إلباسها لباس (التعميم) و(الإطلاق)؛ لأنّ هناك أوقافاً تجديدية هنا وهناك، ونقاطاً وضيئة تدلّ على الانفتاح على الجديد النابت في الحياة، وتخصيص أوقاف إليه، وبعضها لم يتناهَ إلى مسامعنا، ولم تُكثّف عليه عدسة الضوء والبروز والإبراز.
لكنّ عين دائرة الوقف الكويتي بصورتها الماثلة المتحقّقة انفتحت بسعة على آفاق كثيرة ومتنوعة من الأغراض التجديدية للوقف، فقطعت شوطاً رائداً في مضمار الصحة والتعليم، وانبثقت أوقاف لذوي الاحتياجات الخاصة، وأخرى لمساعدة زائري البقاع المقدسة ولو كانوا أغنياء؛ تشجيعاً لهم على الفعل الحسن، وأوقاف لطباعة الكتب ونشر المعرفة، كالذي توليه مؤسسة عبد العزيز البابطين الخيرية وبنائها الشامخ، كما بزغت أوقاف ذات بُعد إنساني يمدّ يديه لسعة الحاجات الإنسانية خارج الوطن؛ ليحفر الآبار في البلاد الفقيرة، ويشيّد الدور، ويصارع الفقر.
ولعلّ واحداً من أجمل موارد الوقف التجديدية في الكويت: المؤسسات التنموية الاستثمارية كالعقارات والمحالّ التجارية والسكنية، التي تسعى للحفاظ على ثبات الوقف واستمراريته، وإيجاد شريان مغدق ممدّ، وتحرص على نموِّه، والصرف من ريعه وربحه على الموارد الخيرية، حتى أنّ (الفريق العقاري الوقفي) ـ وحده ـ اشترى ثلاثة عقارات بقيمة ستة ملايين دينار، وبلغت قيمتها لاحقاً في 2013م ثمانية ملايين دينار، ينفق مما تدرّه من ريع على المساجد والحسينيات وعموم الخيرات كالأضاحي، ودور الأيتام، والتعليم، وتوفير المياه، ودعم ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة(10).
وقد أكد المهندس أسامة الصايغ (مدير إدارة الوقف الجعفري بالأمانة العامة للأوقاف) أنّ أصول الوقف الجعفري ناهزت 280 مليون دينار خلال عشر سنوات من إنشاء اللجنة، وأنّ هناك ما يعادل 37 عقاراً خاصاً بالأوقاف الجعفرية تحت نظارة الأمانة العامة للأوقاف(11).
لقد سنّ الإسلام الوقف ليخدم أيّة غاية محللة ومشروعة، ومرضيّة عند الله، وما ظهر منه من أمثلة ونماذج ومصاديق تاريخية في حياة المسلمين إنّما هو استجابة لطبيعة الحاجات التي يفرزها الميدان الإنساني وغيره، دون اقتصار عليها بوصفها النماذج النهائية والصور الوحيدة.
وهذا ما يُدخل لأغراض الوقف نماذج جديدة تقتضيها الحياة الاجتماعية والحاجات المستجدة، كوجود أوقاف يُعالَج بريعها المرضى، أو تُنشأ بها المدارس والجامعات والمستشفيات والمحلات التجارية والتنموية والخدمية، أو يُدرّس بها الطلبة في التعليم العام أو التعليم العالي، أو تُطبع بها الكتب، أو تُحفَر بها آبار المياه في ديار المحتاجين، أو تُمدّ بها يد العون إلى الحاجات الإنسانية وغيرها، ولو كان مداها التطبيقي عند غير المسلمين، أو في غير بلادهم.
وعلى حدّ تعبير المحقق الحلّي في (شرائع الإسلام)، فللوقف أربعة شروط (شرائط) هي: "أن يكون عيناً، مملوكة، يُنتفع بها مع بقائها، ويصحّ إقباضها"(12).
وللوقف ضابطة كلية عامة هي: "كلّ ما يصحّ الانتفاع به منفعة محللة مع بقاء عينه"(13).
فجملتا (يُنتفع بها) و(كلّ ما يصحّ الانتفاع به منفعة محللة) تمثّلان قاعدة واسعة ومرنة ومتحرّكة وسيّالة، تتسع لجميع النماذج التقليدية التاريخية للوقف التي ظهرت في الماضي، كما تتسع للنماذج التجديدية المعاصرة والحديثة، وتتسع لكلّ ما من شأنه أن يحقّق (النفع المحلّل) للإنسان والحيوان والطبيعة والوجود، مما يمكن أن ترسمه ريشة الزمان على طول المدى واختلاف البيئات والطبائع والحاجات.
- 4ـ مرونة الدولة:
إنّ الوقف وغيره من الفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية في المجتمعات الإنسانية إنّما يتطور وينتظم في ظلّ الدول التي تضمن دساتيرُها وقوانينُها ما يحفظ ويحمي وينظّم تلك الفعاليات، ويرفدها بالقانون الحامي، ويهبها الحرية المنتجة، ويشرع لها باب الإبداع والتجديد والممارسة والنشاط، ثم يرعاها ويرعى منجزاتها.
فمرونة الدولة في التعامل، وإتاحتها الفرصة للمجتمع المدني الأهلي لممارسة نشاطاته، فضلاً عن الدعم الرسمي لها وترسيمها يُشعر تلك الفعاليات ـ ومنها الأوقاف ـ بالثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ويشكّل إطاراً تستفيد منه الفعاليات في تحريك عجلة الفكر والإبداع والفاعلية، ويرخي على عملها الطمأنينة.
بينما تصدّع وغياب الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع يدعم قناعة عامة لدى المشاريع الاجتماعية أنّ سلامتها وفاعليتها ونجاحها ونموها وتطورها إنّما يتمّ ويتحقّق في ظلّ البعد عن الدولة ومؤسساتها وهيمنتها!!؛ لتحتفظ المشاريع لنفسها بقدر من استقلالية القرار وشكل الهدف وطبيعة المشرفين على المؤسسة الوقفية والأوقاف، ولتفلت من أسار الهيمنة والتسلّط.
والأوقاف الكويتية تحظى بقدر نسبي كبير من مرونة التعامل الرسمي معها، بحيث ينتمي جزء منها إدارياً لوزارة الأوقاف الكويتية، وتغدق عليه المؤسسة الرسمية من عطائها، ويمارس قسم آخر منها نشاطاته في ظلّ مؤسسات أهلية غير رسمية، لكنّها تحظى بقدر وافر من الحرية والعمل والحركة. ينطبق ذلك على الوقف الإسلامي بشقّيه: السنّي والشيعي معاً.
فالنشاط الوقفي الكويتي بطرفيه الرسمي والأهلي استفاد كثيراً من مرونة الدولة وتسامحها، فاتصف بمستوى متين من السعة والنشاط وعلنية الممارسة؛ مما يعكس ثقة عالية يوليها المجتمع هناك للمؤسسة الرسمية للدولة وطبيعتها التعاملية، ويحكي ثقة متبادلة طرفينية، ويجسّد (اللحمة الوطنية) بين المجتمع والدولة، الأمر الذي ينعكس ـ بطبيعته ـ على أبناء الوطن عموماً، وعلى سائر أنشطته وفعالياته.
وهذه المرونة والتسامح عمل ضروري في الوقت الذي يسود فيه نموذج الدولة الأبوية السلطوية القمعية في كثير من دول العالم الثالث، ويتفشّى الاقتتال الداخلي والتناحر في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وينشر فيه الإرهاب رايته السوداء العقيمة، فضلاً عن انتشار فكر الكراهية والتحريض الطائفي والفئوي البغيض!!
إنّ ما تمّ تحقيقه في الكويت من مستوى رفيع من الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع انكمش أو انعدم في دول إسلامية كثيرة أخرى، بحيث غدا المجتمع ينظر للسلطة القائمة بوصفها نظاماً استبدادياً ديكتاتورياً شمولياً سلطوياً أحادي الفكرة والمنهج والتطبيق، يسعى لتعميم فكر واحد، ومن ثمّ يتوجس المجتمع من إمكانية ربط الأوقاف به، ويعتقد أنّ نجاح مؤسساته الوقفية يكمن في البعد عن الانخراط في مؤسساته؛ لأنّ الفكر غير المتسامح للمؤسسة الرسمية من شأنه منع تدفق الوقف في مياه لا تؤمن بها تلك المؤسسات، وتطبيق الرؤية الأحادية المغلقة في تصريفها، فضلاً عن إمكانية الحجر والهدر والتضييع والنقل؛ بسبب عدم رضا الدولة عن طبيعة الانتماء العقدي أو الفقهي أو الفكري لبعض الفئات الاجتماعية!!
فحيث تفقد أطراف واسعة الثقة في المؤسسة الرسمية تميل إلى جعل أوقافها أهلية تنتظم ضمن مؤسسات المجتمع المدني، وتبتعد عن نظارة المؤسسات الرسمية وإشرافها والانتماء لها؛ لتتمكن من فعل مرادها الديني والإنساني والاجتماعي والخيري وفق الرؤية التي ترتئيها وتؤمن بصوابيّتها، بعيداً عن الهيمنة الرسمية والتضييق الحكومي.
وقد جاء (ملتقى تكريم كبار الموقِفين في الكويت)؛ ليجسّد الرعاية الرسمية من الدولة لبعض أنشطة الوقف، فكلّ نفقات الملتقى، والدروع المصنوعة من مادة (التنبر) المقاومة للصدأ التي وزعت فيه، كانت منحة من الدولة، ولم يُكلّف فيها الوقف الإسلامي بدفع دينار واحد.