محمد .. بضوء أخضر

عقيلة آل حريز *
إذا كانت الشهب تضيء  يا رسول الله فأنت وحدك سراجها ..
 طويت الجزيرة بقلبك الرحيم فانفصلت ملامح الأفق الغارب عن وجهها .. فكل هذه الصحراء المترامية والممتدة على مساحة عريضة من شبه الجزيرة العربية تتلهف ضارعة إلى خطواتك فوقها .

وكل هذه الأصنام المعبودة من دون الله تترقب قدومك إليها .. لقد اختنقت بالصمت الذي تضخم داخلها فأرادتك أن تحررها من شرك الإنسان فيها.

وهؤلاء المستضعفون تتهامس قلوبهم المتوجسة بالخوف والذعر والقلق من نير الاستعباد، يتطلعون نحو إشراق شمس لا تغيب ..
حين جئت إلى الجزيرة القاحلة ضربت فيها خطاً واسعاً ملأته بالخير العظيم .. فاستهلِّت الأرض بنورك حتى استحيت شمس الأفق متوارية خلف السحاب بشفقها الأحمر،  واخضرت تحت قدميك كما اخضرت ربوع بني سعد من قبل .

أما الأوضاع التي عالجتها فكانت شبه ميئوس منها .. أفواج من الجهل المتردي .. أفواج من قبح أخلاقي مستعصي .. وأفواج من ظلم وقسوة .. وأمراض اجتماعية متفشية .

نظرت إلى كل هذا وبصبر يفوق الجبال صلابة وإصرار وعزيمة تغالب أشد الأبطال ضراوة، شمرت عن ساعديك ودخلت معركتك مع الجهل باسماً، لِتُصَنِعْ الإنسانية كلها من طوايا نفسك الرحيمة وتسقيها من عُمق إيمانك وتسدل على أنفاس مكة ويثرب صفحات خيّرة معجونة بالنور المتراسل تشهد لك به السماء، ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ  (128) سورة التوبة.

تغدق حيث يكون العطاء أنت.. وتعطي بسعة وقت كان الأثرياء يحتفظون  بأكياسهم مختومة تحت وسائدهم .. وتضحي وقت أن كان للراحة لذة لا تُقاوم .

بخطوط خضراء بُعثت للعالمين رحمة فأنبتت هذه الرحمة وأينعت ثمارها لتُغذي هذه الأمة إلى يوم الدين
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ   (107) سورة الأنبياء

والكعبة في كل هذا- يا سيِِّدي- تتطلع لأن تأخذ مكانتها كقبلة يعبد الله فيها ، فكنت لها كماء المطر ..
غسلتها بالإيمان.. طهرتها من الأوثان.. نوِّرتها بالقرآن.. أعدت لها براءتها وحُرمتها.. نكست راية الأوثان وكسرتها حتى غدت ترفل في حُلّتها الجديدة  " بيت الله الحرام" .

وهذه البشرية يا سيِّدي في كل مكان .. همستَ في عقلها بضيائك الأخضر فذابت ثلجاً وذابت شمعاً حتى هامت في حبك بوله محبوب .
أما هؤلاء اللذين منطقوا أيامهم بالكفر والعناد معك.. تحولوا فيما بعد إلى تماثيل من طين سرعان ما اكتسحها الموج فتهاوت لتتلاشى بعد ذلك.. وأما الحب نفسه، فقد تعرَّشت به أركانك وامتلأت به نفسك، بل إن الحب نفسه صار ينضح من قلبك حتى أشرق على قلوب الموحدين بالنور والكرامة فصار عشقاً يُفضي إلى الجنة.

وسموت بهذا الحب إلى أفق أبعد من ضوء النجوم حتى رسمت به في كبد السماء لوحة منحوتة كتب فيها بنور معجون بماء المزن "محمد، حبيب الخلق حبيب الرب"
ثم رحت تشدو بتراتيلك ألحاناً تذيب رين الصدور المغلقة.. فملأت بها هذا الخواء.. هذا الجفاف.. هذا الفراغ.. وهذه الصحراء..  تستنطق الوجود كله بصوتك الرخيم، بعبق ينقل شذاه الأثير ، وصارت أنفاسك فيها  اهتزازات ناعمة تحرك صفحتها الصامتة لتزيدها توهجاً ووضوءاً،  تستقطب بعدها العالم كله بمساحته المترامية الأطراف وحضارته الشاغلة للأذهان . 
 
وحين أتى وقت الرحيل واستبدَّ بك الشوق إلى اللقاء..  لم ترحل حتى نظرت إلى الأوراق المبعثرة فأعدت قراءتها من جديد.. أما الثمن الذي دفعته الحياة الجديدة للجهل كي يُغضي الطرف عنها..  فقد كان باهظاً.

وفي لحظة الإنعتاق العظيم .. سمعتك الدنيا تُتمتم فأدركت أنك غارق في تراتيل الصلاة .

كاتبة وقاصة (سعودية )