هل سنأكل مما رميناه بالأمس؟

الأستاذ وسيم الرجال *

لست مخضرما لكنني أسمع كما يسمع أبناء جيلي حكايات عن الفقر في زمن أجدادنا و ما عانوه من ضيق الحال و قلة ذات اليد.  فلانة تلتقط التمر من السكك و فلان لا يكتفي بتناول الطعام في وليمة الزواج بل يضع الرز في ثوبه بعد أن يرفع طرفيه ليذهب به إلى البيت و يشرك الأهل في الوجبة.  الفواكه كانت نادرة و تقدم المناسبات ولم يكن ثمة " كيوي" من نيوزلندا أو " منجا " الفونسو من الهند ولا " التفاح" الأحمر الأمريكي , مؤخراً ,البرتقال و حسب كان سيد الفاكهة الذي يكرم به الضيوف.

تقلصت مهنتا الفلاحة و الملاحة كمهنتين أساسيتين في بلدنا و مع تدفق النفط انحسر الفقر بانحسار المهن التقليدية وبدأت تتدفق الأموال في الجيوب و تغير نمط العيش من الحياة الريفية البحرية الجميلة رغم صعوبتها و شظف العيش فيها ( حسب شهادة أحد كبار السن "رحمه الله" ) إلى حياة المدنية و الحضارة التي أصبحنا فيها مجرد مستهلكين لما تنتجه الدول الزراعية و الصناعية الكبرى.   لم تعد "النعمة " عزيزة.  و أصبح مألوفاً أن ترمى الأطعمة الشهية الصالحة للأكل في حاويات القمامة.  فليس مستغرباً أن ترى الرز و اللحم يحشر في الأكياس السوداء و البخار لما يتوقف عن الصعود من الطبق.  و ليس عجيباً أن ترى قدوراً مهيأة لضيوف مفترضين تنبذ مع المخلفات دون أن تطرف عين من يرميها أو يتمتم متأسفاً مستغفراً ربه.

و ليست حفلات الزواج و الولائم العامة مناسبات فريدة يمارس فيها هذا السلوك , بل أصبح رمي الأطعمة معتاداً في البيوت و المطاعم و الرحلات و سائر شؤون الناس و اجتماعاتهم.  فلا تعترض لو حللت ضيفاً في شهر رمضان وبعد الفطور أو السحور قلب مضيفك أطباق القيمات و السمبوسة و الكفتة و لفائف المعجنات و العصيد و السلطة على وجهها تمهيدا لرميها أمام عينيك كدليل حسي ماثل امامك على حسن ضيافته و كرمه. لا تعترض!!  فالسلوك أصبح عرفاً اجتماعياً مستساغاً لدى فئات كثيرة من الناس, و يمارسه ذو الراتب المتدني و ذو الراتب المرتفع.  وليت رمي الأطعمة "الصالحة للاستخدام البشري"  يتم التخلص منها بحيث ينتفع بها "الحيوانات و البهائم " كالرز للطيور و الخبز للبقر و اللحم للكلاب و القطط, فالمشاهد أن الرمي يتم وكأن هناك إصراراً وحرصاً على أن لاينتفع بهذا الطعام أي مخلوق, فالأكياس محكمة الإغلاق و الطعام مختلط بالصحون و العلب و غيرها.  ربما يرى البعض صعوبة في إيصال الطعام إلى من يستفيد منه ولكنه لو تأمل في الجواب المطلوب منه بين يدي الله تعالى لتحمل في هذا العالم قليلاً من المشقة قبل تحمل مشقة يوم الحساب.

ويبدو من التأمل في المجتمعات الأخرى أن مجتمعنا ليس بدعاً من المجتمعات البشرية التي تعيش ظروفاً و أوضاعاً مشابهة من وفرة الطعام و يسر الحال.   فما الذي يمكن أن يمنع هذه الظاهرة؟ 

 أهو الوعي و الإدراك بأن هذه الممارسة تصطدم مع الدين أولاً  و مع الذوق السليم و الطبع السوي ثانياً  و تتعارض مع الإنسانية و التحسس بآلام المسحوقين ثالثاً ؟  هل إدراك هذه الأمور يكفي؟  

أم أن الفقر و الاضطرار إلى احترام " النعمة " هو العلاج الناجع لهذا السلوك غير السوي؟

يصف أحد الخطباء العراقيين أوضاع مجتمعهم قبل ما يقارب 40 سنة , و يذكر أنهم كانوا يرمون الأطعمة في القمامة ثم ابتلاهم الله بما هم فيه من الفقر و العوز و الجوع.   ولقد رأيت مشهداً يهز الوجدان في بعض أرض العراق عام 1421 , رأيت عجوزاً جالسة على الأرض تقترب ببطء من حاوية القمامة و تلتقط قطعاً من الخبز تخبئها في كيس بين الثياب.   و سألت أحد أهل المنطقة التي كنت فيها عما رأيت , أتجمعه للبهائم أم لبيتها؟    فقال كلاهما وارد " يجوز للحيوانات و يجوز لأولادها" وعقب بأن هناك من هلك جوعاً في بعض بلادهم.

جوهر المشكلة هو وضع الشيء في غير موضعه أي أن هذا الفعل و السلوك من أفعال و سلوك غير العقلاء . و المشكلة بوصف مبسط هي إهدار الثروة التي وهبها الله سبحانه وتعالى لعباده مع القدرة على الاستفادة منها.  و فيها مخالفة واضحة لتعاليم النبي و أهل بيته المعصومين عليهم السلام.  فإذا كان الأكل الزائد عن حاجة الجسم و تقويم الجسد يعد إسرافاً , فماذا يعد رمي المقادير الهائلة من الطعام دون الاستفادة منه مطلقاً؟   إن كان تناول الزائد عن حاجة الجسم إسرافاً فرمي الطعام تبذير.

و عذرا لو استطردنا في بيان الفرق بين الإسراف و التبذير , فالأول يكون إنفاقه في الحق و الحلال ولكن بإفراط و زيادة عن مقدار الحاجة , و التبذير إهدار للمال دون فائدة كفعل السفيه بدفع أضعاف القيمة للشيء الذي يشتريه , أو كإنفاق المال في المعاصي.

 و الله تعالى يقول في المسرفين:

﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) سورة الأعراف

﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) سورة غافر

ويقول في المبذرين:

﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) سورة الإسراء

 

  • و قبل طرح الحلول نتعرض لمنشأ المشكلة.

 ليس لظاهرة الإسراف و التبذير  منشأ واحد بل هي مشكلة متعددة الجوانب :

1- استبعاد حقيقة المحاسبة من الله, أي أن البعض يمارس هذا السلوك باعتباره أمراً مقبولاً لا ضير فيه ولا مخالفة لحكم من أحكام الله.  بكلمة أخرى " الجهل المركب " فالبعض يجهل أنه يجهل فداحة الخطأ و سوء العمل الذي يقوم به.

2- الخجل من تعيير المجتمع.  فسهام الاتهام بالبخل مصوبة نحو من يتصرف بشكل عقلائي في الضيافة و ما يفضل من الطعام.  فربما يعلم البعض أن هذا ليس كرماً ولكن يفعله اتقاء العتب و اللوم.

3- الاعتقاد بأن هذا من الكرم.  فهناك تصور بأن المبالغة في إكرام الضيف من الأدب و حسن الضيافة.  و الحال أن المبالغة في إكرام الضيف باحترامه و توقيره و عدم التقصير في خدمته و ليس بإهدار ما قدم له دون منفعة.

4- الاطمئنان بالقدرة المالية.  فلا خشية من نقصان القوة الشرائية للريال ولا خوف من نقصان الرصيد.  و بالتالي ما الحاجة إلى "التقصير" مع الضيوف و العيال؟

5- الملل و الكسل من اتخاذ أي حل.  فالبعض مقتنع بخطأ الممارسة تماماً و يخشى أن يأتي يوم يضطر فيه لجمع ما نبذه أيام الرخاء ولكن الجواب " شنسوي ؟ "  " كده كده بينرمى"  و  "إذا ما رميته أنت بيرميه غيرك"  (إذا بادر حتى لاتفوتك الفضيلة و يسبقك الآخرون إلى هذا الشرف!!!)

6- عدم التحسس بجوع الناس في أصقاع الدنيا.  ربما نعلم أن في الدنيا مجاعات و قحط في الموارد الغذائية , ولكن لا نشعر بآلام غيرنا , وإذا شعرنا استسلمنا للواقع و سلمنا بأفعال من حولنا.

7- غياب النظرة الحكمية و الفلسفية لوجود الإنسان في هذا الكون.  قد يكون السبب غامضاً ولكن ما أعنيه أن الإنسان لو تأمل في حقيقة وجوده المؤقت في هذا العالم و نظر في طول عمر الكون من آدم إلى نهاية الدنيا و قلب الأرض و ما تحويه من خيرات , ثم سأل نفسه هذا السؤال: ما هو نصيبي من هذا الكون ؟   ما حصتي من الزمن و القوة و الثروة التي أرادها الله و التي تناسبني حسب ما قدره الله ؟   أتراني أخذت أكثر مما خصصه الله لي إذ خلقني و خلق لي رزقي؟  فما هو الحد المناسب لاستخدام العاقل الحكيم ولو كان يملك أموالاً كمياه البحر؟ 

 وهذا السبب الأخير – في ظني – هو الغرض من بعض التعاليم النبوية الشريفة في التعامل مع الثروة.  فلماذا يكره الإسراف في ماء الوضوء ولو كنت تملك ماء الأنهار في الدنيا؟ (ربما يعزو البعض كراهة الإسراف للابتعاد عن الوسوسة في الطهارة )  ولماذا يعد رمي نوى التمر أدنى درجات الإسراف و كذلك إهراق فضلة الماء؟؟   ولماذا يكره أن تجعل " ثوب صونك ثوب بذلتك"؟   أي أن تجعل ثياب الأناقة " الكشخة" مبتذلة للعمل و تعرضها للتلف؟  أليس ذلك من أجل تحويل الإنسان إلى كائن حكيم وليس خشية من الله – استغفر الله – على ثروات الدنيا ؟

و الحلول – رغم أنني لست متفائلاً بأي منها – ليست بيد الخطباء و المشايخ كما هي عادة البعض في تحميلهم المسؤوليات الاجتماعية من " طق طق للسلام عليكم" مع أنني لا أنكر ولا أتنكر لدور الخطباء الكبير في الحد من الكثير من المشاكل الاجتماعية فبذورهم تنمو في الأرض الصالحة و هذا يلاحظ بالمقارنة مع من حرموا أنفسهم من نعمة المنبر الحسيني فبالنظر إلى حال الآخرين يهون خطبنا.

إنما هي مسؤولية مشتركة يتحملها الأكثر شعوراً بضرورة التغيير و الأقدر على ممارسة التغيير بغض النظر عن جنسه و منصبه و عمره و طبيعة عمله.  بل ربما يستطيع التغيير من لا يخطر ببالنا إطلاقاً كالمعدمين من عمال النظافة حينما يفرحون بالطعام كما يفرح البعض بالذهب و النفائس. 

فإذا نظرنا إلى المشكلة من جانب الولائم و حفلات الأعراس, ربما يساعد في ذلك توجيه الكلام إلى أصحاب المطاعم الذين يستقدمون المهرة من الطباخين لتصنع أيديهم طعاماً مصيره غير ما تعبو من أجله , يخاطبون بصفتهم مستقبلين للشريحة المعنية و الممارسة لهذا السلوك غير الديني و غير الحضاري فيقومون بدور المرشد و الموجه و لو من زاوية عملية في طريقة التوزيع و التقديم و التخزين و الاستعداد لاستقبال الفائض مثلاً.  

ربما يحد من المشكلة أصحاب الصالات بتوجيه المشورة و إبداء الاستعداد للتعامل مع فائض الأطعمة  بما يليق بمستوانا الإدراكي و الشعوري النابع من التعقل في جميع الشؤون.  كإرسالها إلى من يقبلها من المسحوقين القادمين من بلاد الفقر و المسكنة إلى أرض النفط و الثروة.

ربما يحد من المشكلة نشر قصص عن أقوام كانوا منعمين مرفهين وادعين , لم يحترموا نعم الله عليهم , فأذاقهم الله مرارة الحاجة و أصبحوا مقتصدين بعد التبذير و متعقلين بعد السفه.  

وربما لايحد من المشكلة و حسب بل يحلها حلاً جذرياً نهائياً شاملاً مثالياً  تقلب الزمان و تبدل الحال , و إني أخشى إن أصررنا على أفعالنا و استسخفنا جرمنا أن يبتلينا الله بذنوبنا و يجعلنا أحاديث يتعظ بنا غيرنا و تقص أنباؤنا على من يخلفنا. نأأ